بقلم سهيلة باتو
صحفية و مخرجة سينمائية
23 مايو 2025. في مهرجان "كانّ"، تتلألأ الشاشة الكبرى بلقطات وقائع سنين الجمر.
الفيلم الذي قبل نصف قرن، في هذا اليوم نفسه، منحه السعفة الذهبية وخلّده في ذاكرة السينما العالمية.
وفي اللحظة ذاتها التي كان فيها الجمهور يصفق لذاكرته، كانت الحياة تُسدل الستار بهدوء على مخرجه.
في هذا التزامن الذي يبدو كأنه من نسج السينما ذاتها، يترك لنا هذا العملاق رحيله كأجمل مشهد ختامي:
لحظة صمت تليق بأسطورة، حين يغيب المبدع في الوقت ذاته الذي يعود فيه عمله ليضيء المسار.
من مسيلة، حيث شاهد أول فيلم على جدار أبيض في عرض شعبي،
إلى "كانّ"، حيث عمل نادلاً بين ظلال النجوم، يرى السينما بعين الحالم، عالمًا من الضوء والخيال،
حيث يولد الحلم ويُصاغ من الذاكرة والذوق.
في زمن الثورة، انضم إلى الحكومة المؤقتة في تونس، حيث أخذ أولى خطواته في عالم الأخبار والصحافة المرئية، قبل أن يسافر إلى براغ، حيث تعلّم أن الكاميرا ليست آلة فقط،
بل سلاح ذاكرة يُحفظ به التاريخ والوجع والحرية.
عاد بعد الاستقلال ليس فقط ليحكي قصة الجزائر، بل ليمنحها صوتًا يعلو فوق الصمت، ينطق بعيون الفلاح، ودموع الأم، وصمت المقاومين.
كان يكن احترامًا عميقًا، وشغفًا خاصًا، للرئيس الراحل هواري بومدين، ذلك القائد الذي كان يرى فيه روح الثورة تتجسد، حتى أن عيناه كانت تلمعان بالدموع حين يذكره، رجلًا آمن بأن الفن ليس مجرد رفاهية، بل سلاح لبناء ذاكرة الأمة وحمايتها.
في هذا الزمن الجديد، كان فيلمه وقائع سنين الجمر أكثر من مجرد سرد للحرب، بل شهادة بصرية على هوية وطن مشتعل، تاريخ مكتوب بنار الصراع وضوء المقاومة.
حلمه الكبير، عمر المختار،
ظل مشروعًا مؤجلاً في درج السينما العربية، فيلمٌ لم يُنجز، لكنه ظل حيًا في ذاكرته، كما تبقى الجمرات نائمة تحت الرماد.
واليوم، بينما كان فيلمه يُعرض في "كانّ" بحضور الجيل الجديد،
كان في غزة فيلمٌ آخر يُعرض بالدم والأنقاض. نفس العيون، نفس الأسى،
نفس الحاجة لعدسة لا تخاف قول الحقيقة.
وقائع سنين الجمر تصلح لكل عصر...
لأن الجمر لم يبرد، والمقاومة لا تموت. الستار أُسدل، لكن الفيلم لم ينتهِ. وداعًا، أيها الفنان. قبعة مرفوعة، احترامًا.


