نشرته دار الفكر السوريّة:
كتاب "مدارس دمشق ومعاهدها"
صدرا مؤخرا عن دار الفكر السوريّة كتاب " مدارس دمشق ومعاهدها" للدكتور نزار أباظة، وهو عبارة عن دراسة في مؤسسات التعليم الأهلي.
ويتناول الكتاب جانبا مهماَ من التاريخ العلمي والثقافي لدمشق في القرن الرابع عشر الهجري الذي جرت فيه أحداث جليلة متغيرة في الحركة العلمية والثقافية، يحسن أن يتناولها بحث مفرد يصفها، ويذكر ما لها وما عليها، حيث يتحدث بإيضاح عن المدارس الأهلية التي أنشأها في دمشق أهل العلم، في زمن كانت المدارس الرسمية قليلة جدا، فهو كتاب هام جدا في مجاله، وجدير بالقراءة والتأمل.
وأوضح المؤلف أنه لما فرغ من ترجمة كتاب «التعليم في سورية» الذي ألفه بالفرنسية الدكتور خالد قوطرش رحمه الله، وكان قدّمه أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في جامعة بول فاليري بمونبيلية، وجد فيه نقصاً واضحاً في موضوعِ عنوانهِ، على أهمية ما قدّمه من معلومات، وإلى ذلك أشار في مقدمة الترجمة التي صدرت بها صفحات الكتاب؛ ذلك لأنه أغفل جوانب لا ينبغي إغفالها ضمن البحث الذي تناوله.
ولذلك وجد المؤلف نفسه يرفع قلمه عن الكتاب بعدما وضعت نقطة النهاية، يسأل عن مدارس أنشأها في دمشق أهل العلم، قدّمت للمواطنين خدمات جليلة، وخدموها في أوقات صعبة قدر جهودهم. فرأى أن الكتاب تجاهلها. فصار مسؤولاً عن البحث فيها، ما دام إشتغل في تاريخ مدينة دمشق المعاصر والحديث.
واعتبر الكابت أنه وفاء للرجال الذين أخلصوا للعلم وحملوا مسؤوليته أمام الله، فيجب أن يُذكر كل بعمله، ويُشكر له ويبيّن إحسان المحسن . وهذا في زمن كانت المدارس الرسمية الثانوية والإعدادية والابتدائية قليلة جداً في مطالع القرن العشرين وأشهرها الثانوية الوحيدة المعروفة باسم مكتب عنبر وكان إلى جانبها مدارس ابتدائية ورشديّة .
وأضاف أنّ التدريس الشائع في دمشق كان يقوم على حلقات الشيوخ الذين استمر بهم العلم، منذ أن دخلها المسلمون، فأحيوا مسجدها بالقرآن والقراءات، وكان أول من أقرأ به أبو الدرداء، رضي الله عنه، وزوجته أم الدرداء الصغرى ، ثم تتابعت حلقات العلم فيه حتى كان عند كل عمود من أعمدته عالم يقرئ الناس.
وتابع قوله " ثم انتشرت حلقات العلم في مساجد دمشق وفي بيوت العلماء والخاصة، وكانت مقصودة من الآفاق، يؤمها الطلاب للأخذ عن الشيوخ واستجازتهم لم تنقطع أبداً، يبذل فيها العلماء من مهجهم لا يسألون فيها أجراً،وربما تقاضوا رواتب من الأوقاف الكثيرة التي توفر لهم الحياة الكريمة، ويبقى الطالب يتنقل بين الحلقات، ويحصل كذلك على منافع من الوقف".
وعُرف بالطبع كتاتيب منتشرة في الأحياء، يساق إليها الصبية، يأخذون عن المؤدب مبادئ القراءة، أو ما كان يسمى «فك الحروف» ويعلمهم القرآن تلاوة أو حفظاً بحسب الحال. ثم إذا تخرج الصبي في الكتّاب انتقل إلى حلقات الشيوخ، أو فارق المعلم إلى مهنة أسرته.
وأول من أحدث نقلة في الكتاتيب من الأهالي، فأنشأ مدرسة بالمعنى المختلف عن الكتّاب هو الشيخ محمد عيد السفرجلاني ثم الشيخ أحمد دهمان، وسيشير إليهما المؤلف في خضم هذا البحث.
ومع انتشار الأمية وشيوعها كان كثيرٌ من الأهالي المتنبهين يقصدون المدارس لتعليم أبنائهم؛ وقد أشار إلى هذا عبد العزيز العظمة بقوله: «المدارس الحكومية تغصّ بالطلاب والطالبات، لا تستطيع قبول كل من يقصدها لضيق الأبنية، فيعود أكثرهم خائبين، ترفضهم إدارات المدارس، وهم لا يقلون عن النصف ممن ساعدهم الحظ، ودخلوا المدرسة» .
على أن كثيراً من الأهالي كانوا يرغبون لأولادهم أن يحصلوا على الشهادات للالتحاق بالوظائف التي كان دخلها يوفر لهم حياة كريمة جداً .
ولهذا قامت ضرورة ملحة لافتتاح المدارس الأهلية الابتدائية والثانوية التي سنأتي على ذكرها، يقول الكاتب.
ولقد أشار نعمان القساطلي إلى انتشار المدارس بدمشق، فقال: مدارس المسلمين كثيرة، ونفقتها على أهل الإحسان .
وكانت المدارس بدمشق عموماً على ثلاثة أصناف: المدارس الرسمية التي أنشأتها الدولة، والمدارس الأهلية التي تعدّ رديفاً لها، ومدارس الطوائف غير المسلمة، ومدارس أجنبية أو ما تسمى تبشيرية .
أما المدارس الرسمية، فليست من موضوع هذا الكتاب، وربما تناولتها كتب أخرى، تخصصت بها وتحدثت عنها بشيء من استفاضة .
ويبقى هذا الكتاب عن جهود الأهالي في نشر التعليم الخاص خلال القرن الرابع عشر الهجري، وما يقابله من سنوات القرن العشرين الميلادي، وهذا يحتاج إلى وقفة من أجل دراسة ما أحدثه الأهالي من مدارس وبيان قيمتها، وما يمكن أن يستفاد من تجربتها، بعدما انقضى القرن العشرون بصخبه وضجيجه ومشكلاته وحوادثه الفظيعة.
وجاء القرن الواحد والعشرون وقد تغيرت الحياة بكل معانيها فظهرت مدارس ذات نمط جديد، وجامعات مختلفة ورؤى ذات طبيعة خاصة، فإذا الحياة غير الحياة، وإذا الناس غير الناس، وهذا ليس من اهتمامات هذا الكتاب؛ إذ اقتصر على ما أشار إليه.
وقبل أن يعرّف بهذا الكتاب في أبوابه وفصوله قال المؤلف: قامت المدارس الأهلية لغاية هي سدّ النقص في التعليم الرسمي كما أشار، وشعور أهل العلم بالحاجة إليها، ولذلك كانت تلك المدارس تحمل رسالة مقدسة، لعلها قامت بها خوفاً من سؤال الله تعالى يوم القيامة وخدمةً للبلد، من خلال شعور وطني. فهل تحمل المدارس الأهلية العديدة -وقد اشتد عليها الطلب اليوم في هذا القرن الخامس عشر الهجري - هل تحمل رسالة مثل تلك الرسالة ؟ هذا سؤال مفتوح، يحتاج إلى جواب، على حدّ تعبيره.