..شهادات حية لمجاهدين عكست المأساة التي عايشوها عل مضض خلال فترة الزج بهم في معتقل " كاموران" أو ثكنة " كمورة"، الواقع في مكان مشؤوم ورهيب تحت جبل بوغار بمنطقة قصر البخاري بولاية المدية، والمخصّص، منذ فتح أبوابه سنة 1957، لأسرى مجاهدي جيش التحرير الوطني دون سواهم، تطرّقوا خلالها لمقاومتهم الباسلة لابتزاز الكابتن صماري حاكم المعتقل، نائبه جيروا، رئيس المصلحة البسيكولوجية، وجلاديه الهمجيين من اللفيف الأجنبي..
مجاهدون بواسل استذكروا الارهاب النفسي والمعنوي، أساليب التخويف والذعر والاضطهاد الهمجي، على أيادي آثمة ومختصّة في أشدّ أنواع التعذيب والاستنطاق، وكيف ظلّوا صامدين وقاوموا خطر الموت باستمرار بفضل ايمانهم وصبرهم القوي وتضامنهم المثالي..
هي وقائع حقيقية ونماذج من تضحيات مجاهدين بواسل، سجّلوا شهاداتهم التي استقيناها من الجمعية التّاريخية والثّقافية 11 ديسمبر ,1960، ينقلها " الحراك الاخباري"، كما جاءت على لسان مجاهدين أبوا إلاّ ذكر المآسي التي كابدوها ولتمجيد تضحيات رفقائهم الذين اغتيلوا خرقا للقوانين الدولية.
المجاهد بوعلام بن حمودة
عشنا في خطر موت مستمر
كشف المجاهد بوعلام بن حمودة، الذي مكث في معتقل " كاموران" من ربيع 1959 إلى ربيع 1962 بعدما أصيب بجروح خطيرة في الساق الأيسر والمرفق الأيمن، أنّ "معتقلي كاموران قد عاشوا مدة سجنهم في خطر دائم معرضين للموت في كل لحظة، تحت سيطرة السلطة العسكرية للمعتقل رغم أنهم كانوا معتبرين آنذاك كـ"فرنسيين مسلمين" ولم يحيلوا على العدالة أصلا ولم يعترف لهم حق مساجين الحرب طبقا لاتفاقيات جنيف، وفي الحقيقة لم تعترف فرنسا بحالة الحرب في الجزائر من 1954 إلى 1962 إلاّ بعد الاستقلال"..
وعن أساليب المستعمر داخل المعتقل قال المجاهد بوعلام بن حمودة "فرض على المساجين الجزائريين أعمالا شاقّة مرهقة ومهينة مصحوبة بالضّرب والشتم ولم يراع بحالة بعض الجرحى والمعطوبين، وهذه الأشغال لم يكن لها مقابل غذائي مناسب وكاف ولا رقابة طبية زمنية، مثلا كنت مرغوما على كسر الحجارة طيلة النهار ثم تشحين العربات بالرمل، كان الإخوة المجاهدون يخفونني عن نظر العساكر بالغبار حتى لا أتعب من هذا العمل الشاق الذي يتنافى مع جروحي وعجزي"، ليواصل بقوله "أرغموني كذلك على تسيير ورشة بناء ملعب فكرت في نفسي وقلت:" لا حرج سيكون هذا مفيدا لوطني بعد الاستقلال"، وكنا نظهر أننا حقا نعمل أمام الملازم الفرنسي ثم نستريح نوعا ما بعد ذهابه، كلفت لمدة قصيرة بمهمّة مخزن الأغذية التابع للمطابخ الشيء الذي أعطى لي قسطا من الراحة، ولكن عندما حوّلوني إلى المعتقل الخاص وهو مخصّص للسجناء ذوي الخطورة حسبهم رفضت العمل الشاق مع الأخ حاتم كسال بوعلام بسبب جروحنا".
وقال المجاهد "إن مسجوني كاموران كانوا يعانون من العزلة مع الخارج ولم تأتهم أي أخبار عن الأحداث في الوطن، والعائلات التي تزور أحيانا السجناء رغم الصعوبات وعدم الإمكانيات المادية غير قادرة على منحنا بأنباء على الوضعية السياسية أو العسكرية، حيث يوجد دائما فرد من الحركيين أمام كلّ سجين لسماع الحديث، من جهتنا كان علينا إيجاد حيل لإبلاغ إخواني المجاهدين في جيش التحرير عن حالتنا المأساوية والمحزنة، أتذكّر أن يوما وضعت برقية في يد قفة بعد فكها ثم تركيبها، أنبهت المرحوم أخي محمد لما قلت له "أنظر في يد القفة"، كان الحذر والاحتراز وعدم الثقة في بعضنا البعض يسود في كاموران سنة 1959 لعدة أسباب: منها وجود بعض الخونة للأسف ووجود عناصر بلونيس الذين أتوا بهم في المعتقل بعد خلاف مع الجيش الفرنسي بعدما استعملهم ضد جيش التحرير وجبهة التحرير.
استراتيجية فرنسية "جهنمية" لإحباط معنويات السجناء
وأضاف المجاهد بن حمودة بأنّ "السلطات العسكرية الفرنسية في معتقل كاموران كانت تستعمل استراتيجية جهنمية من أجل إحباط معنويات السجناء وإيمانهم لتجنيدهم في صفوف الحركى ومواجهة جيش التحرير كردع، كما أسّست خلايا لا إنسانية مختصّة في الضرب والعقاب الجسماني والاهانة اللاأخلاقية في حق السجناء، بني معتقل خاص جنب المعتقل الأصلي خصيصا للمعتقلين ذوي الخطورة وسمي CMI/S، كان جنود اللفيف الأجنبي يمارسون فيه شتى أنواع التعذيب الأليم واللاانساني والمخل بالحياء لا يستطاع وصفه، كم من سجين قتل في كاموران والمعتقل الخاص وخارجهما مثل عبد القادر زقران ومصطفى خالف ومعمر سنوسي وآخرون نجهل أساميهم، الأخ بلقاسم متيجي يتحدث عن أكثر من ثلاثين شهيدا، حالتنا كانت دنيئة بالمعتقل واختراق حقوق الإنسان من طرف العسكر في المعتقل".
المجاهد عبد القادر بوروبي المدعو " المختار":
أجبرت على حفر قبري وعمري 19 سنة
أكّد المجاهد عبد القادر بوروبي المدعو "المختار"، عضو في جيش التحرير الوطني منذ 1958، ألقى عليه العدوّ القبض سنة 1960، نقل إلى مركز الاعتقال بسور الغزلان ثم حوّل إلى معتقل كاموران وعمره 19 سنة، أنه " وجدت في معتقل كاموران أكثر من 800 سجين، أدخلوني إلى مكتب الضابط جيرو المكلف بالشؤون الدعائية والنفسية، لما درس ملفّي وعرف مستواي التعليمي وتعرف على دوري في جيش التحرير الوطني ككاتب، اقترح عليّ الانضمام إلى جيش الحركى الخونة وعرض عليّ كل الامتيازات من راتب ورتبة وحرية...، قلت في نفسي " كيف أخون عهد الشهداء وأضع شرفي وشرف عائلتي في العار؟، إن إيماني بالثورة وتضحياتي بشبابي أعزّ من كل ما يفرشه لي جيرو على بساط، إنه مجنون وقلت له بالحرف الواحد: " الموت برتبة شهيد أفضل من حياة في جلد خائن"، فغضب وشتمني ثم لكمني هو وسرجان اللفيف الأجنبي، ثم سلمني إلى أحد الجنود الفرنسيين الذي قادني خلف المعتقل وعلى كتفي فأسا ومجرفة لحفر قبري".
يواصل المجاهد بوروبي سرد معاناته داخل المعتقل بقوله "ذهبنا حوالي 100 م وراء كاموران غربا ثم بدأت أحفر القبر، ومن حين لآخر يأمرني الجندي الفرنسي أن أمتدّ داخل القبر لقيس سعته، وفي كل مرّة كنت أقرأ الشهادتين منتظرا طلقة النار من البندقية الأمريكية من نوع "قارة"، لكن كانت هذه مجرد وسيلة تخويف لإجباري على التجنيد في صفوف الحركى الخونة، لكنني كنت مصمّما في موقفي وصمدت صمودا شجاعا".
المجاهد: بلقاسم متيجي
الملازم فور استخدم سيقان المعتقلين لحد أسنان كلابه الألمان
يقول المجاهد بلقاسم متيجي في شهادته عن فترة اسره بالمعتقل سنة 1959، بعدما التحق بجيش التحرير الوطني وعمره 16 سنة، قضى سنة كاملة بالجبال ككاتب وممرض" ما لاحظناه على السجناء الذين سبقونا هو جو من الضيق والهلع والشدة، الحياة كانت فعلا يائسة في كاموران"، مضيفا أن " زنزانة كاموران تتميز بطبعها البارد جدا يترك فيها السجين دون فراش ويفرض عليه نزع الثياب الصوفية او القطنية، ويرمون على ارضية الغرفة الماء يوميا بحيث يبيث السجين المسكين واقفا يمارس حركات رياضية لمواجهة البرد الشديد، يتناول وجبة واحدة في اليوم كما يخرج للمرحاض مرة واحدة في اليوم".
وأضاف المجاهد متيجي أن" النظام المفروض على السجناء من أشد ما يكون، حشد المعتقلين مرتين في اليوم حول الراية الفرنسية، الاسراع في التجمع تحت سوط الجلادين الفرنسيين، الشتم والضرب العشوائي دون تمييز، تحية الضباط وضباط الصف صباح مساء، الأعمال الشاقة، المؤسف الذي لا نتحمله هو الشتم الاهانة والمس بكرامتنا ".
كنا نعاني، يقول المجاهد تيجاني، من" الاذلال المتكرر والشتم والضرب بدون سبب يوميا لمئات السجناء في الغرف وفي ورشات الشغل وحتى في فناء المعتقل ونحن مارين"، مضيفا أن " كان المكتب البسيكولوجي للنائب جيرو والسرجان ميشال يستعمل كل أنواع الحيل الشيطانية لاحباط معنويات المجاهدين قصد تجنيد الضعفاء منهم في صفوف الحركى...لكن للاسف كانت محاولاتهم تبوء مرارا بالفشل".
وأشار المجاهد متيجي الى ان " السرجان توشلي كان متعجرفا بجسمه القوي، يتلذذ بضرب السجناء الضعفاء، والملازم فور كان قبيحا ويستعمل المعتقلين لتدريب كلابه الألمان الذين يحدون أسنانهم على سيقان اخوتنا، كان التدريب يوميا وكل ما يستعمل الملازم فور وكلابه السجناء تراهم يرجعون مساء من ميدان القتال في حالة يرثى لها من دماء سائحة من أطرافهم".
المجاهد: سعيد بوراوي
السجناء كانوا يرغمون على أكل الغائط
يروي المجاهد سعيد بوراوي، رئيس جمعية 11 ديسمبر 1960، الذي نقل الى معتقل كاموران عام 1967، معاناته بالمعتقل بقوله " أوّل شعور أحسست به هناك هو الاستقبال الوحشي واللاانساني من طرف الكابتن صماري وجنود اللفيف الأجنبي، كانت ضربات السطو والقنادق والأحزمة والركلات تصبّ عشوائيا على الأسرى وبدون سبب، ولاحظت أن كل السجناء يعانون من المعاملة السيئة من ضرب وشتم دون استثناء حتى المعطوبين والمرضى، سواء في الغرف أو الورشات وحتى عند رفع العلم الفرنسي".
وقال المجاهد بوراوي إن زنزانات كاموران كانت تعرف بخصوصياتها: باردة للغاية وذات رطوبة بالغة، ليس لها تهوية ولا فراش، ينام السجين مباشرة على البلاط الاسمنتي، وحتى الملابس القطنية تنزع منك وأحيانا حتى الحذاء، وقد تقلل وجبة الأكل وتمنع منك السجائر"، مضيفا أن العمل الشاق الذي يقوم به السجناء فريد من نوعه " هم الذين يقومون بشحن برامل الغائط أكرمكم الله على عربة ثم بافراغها خارج المعتقل تحت حراسة وضرب العساكر، وفي غالب الأحيان يرغمون على الأكل منها".
وأكد بوراوي أن المحبوسين كانوا يصرخون من شدة العذاب الذي لا يتصوّره العقل، "الضرب العنيف بالهراوة الخشبية والحديدية والأحزمة والزحف على الابطن والحركات المضخية على الأيدي والسير السريع حاملين قطع الحجر...، كم من واحد كسروا فكه أو أضلاعه، صارت هذه الممارسات فطرات تتلذذ للعساكر لا يستطيعون الاستغناء عنها، حتى جنود الخدمة العسكرية اعتادوا على الضرب والتعذيب والاهانة وصارت لهم لعبة ومسابقة يتبارزون فيها ليظهر أحسن واحد يتقن أنماط الضرب والخزي تجاه أولئك المتمردين الأشقياء".
المجاهد عمر صامت
طافوا بنا عراة وسط الساحة
من جهته، يكشف المجاهد عمر صامت، الذي نقل بمعية 40 فردا من البليدة إلى كاموران سنة 1960، أنه كان" أول من قاسى من العذاب غير المبرّر، كان جنود اللفيف الأجنبي يرغمونني على الزحف أرضا تحت ضربات قنادقهم والركلات ومسح أحذيتهم بلساني والسطو على ظهري، وفي أحد الليالي أجبروةني على الجلوس فوق لهيب النار، كنا نكسر الحجارة بالحجارة لا بالمطرقة، ومن انواع العذاب الضرب العنيف بالأنبوب المطاطي على الجلد ووضع الأسلاك الكهربائية في جهات حساسة من البدن وعض الكلاب سيقاننا ورباط الرقبة والأطراف بالسلك والضرب بأعمدة خشبية وحديدية، ومن أنواع الاهانة الشتم والبصاق وأنواع من الأفعال اللاأخلاقية لا يستطيع الانسان أن يصفها، كم من مرة طافوا بنا وسط الساحة عارين الجسم تماما، رغم كل هذا كنا نصبر ونسلم أمرنا لله تعالى ولكن نرفض الذل والهوان بمواقف شجاعة كالعصيان ورفض التحية تارة والاضراب وغيرها مما يزيد في غضب العدو ومعاملته العنيفة".
نشير الى أن الشهادات التي نقلناها لا تمثل الا عينة من حالات أخرى، لمعتقلين لا يسع المجال لذكرهم جميعا، تشابهت معاناتهم بداخل معتقل شيدته فرنسا لخرق حقوق الانسان، فحولت نهار المعتقلين الى أشغال شاقة وليلهم الى عذاب وصياح، فمنهم من لقي حتفه تحت التعذيب ومنهم من اعدم والبقية كانوا بانتظار دورهم، بثبات وصبر وارادة لا تقهر، صمدوا صمود الأبطال أملين في يوم النصر الذي تحقق بفضل رجال امنوا ان الحرية للوطن...
سمية.ب