في رحلتنا التاريخية المعرفية مع أعلام الصوفية في الجزائر، تستوقفنا في هذه الحلقة شخصية الإمام الحسين بن محمد السعيد في بني ورثلان، ومن ثمة نسبته الورثلاني، والذي ولد سنة 1125 للهجرة وتوفي بنفس المكان سنة 1193هجري.
ويذهب المؤرخون الورثلاني إلى أنه من أسرة عربية شريفة. وكان جده قد جاء من ميلة وصاهر أسرة محمد أمقران حاكم منطقة قنزات وأصبح شيخ علم معترفا له وأسس نفوذ الأسرة الروحي في المنطقة حتى أنه بعد أن توفي أقيمت له قبة باعتباره من كبار المرابطين، وهكذا اجتمع في أصول الورثلاني الدين والدنيا: الدين عن طريق جده ووالده اللذين كانا أيضا من المرابطين، والدنيا عن طريق أخواله أولاد أمقران الذين كانوا حكاما ورجال سيف. وقد تزوج الورثلاني نفسه من إحدى بنات هذه الأسر الكبيرة، وهي أسرة المسعود بن عبد الرحمن من بني عيدل. كما كانت أسرته على صلة بعائلات قسنطينة.ومع ذلك فإن الورثلاني نشأ نشأة فقيرة أساسها التقشف الصوفي.
رحلته في طلب العلم
في المدرسة القرآنية، التي كان يديرها والده، حفظ الورثلاني القرآن الكريم وهو في سن مبكرة. وبعد أن شب ذهب يبحث عن العلم في مختلف الزوايا، فتعلم الفقه والنحو ثم أضاف إلى ذلك علمي التصوف والتوحيد، ولا شك أنه نال حظا من اللغة والأدب والعروض والتاريخ. وهكذا أصبح الورثلاني، كجده ووالده، من علماء المنطقة البارزين، ومن الذين يدين لهم الناس بالطاعة الروحية والاحترام. وقد أصبح بعد ذلك من المدرسين وشيخ زاوية الأسرة. وكان يذهب للتدريس في بجاية وغيرها. وتخرج على يديه عدد كبير من التلاميذ الذين تولوا بدورهم وظائف دينية سامية.
نزعته الصوفية
غلبت على الورتلاني الروح الصوفية أكثر من الروح الفقهية، ومع ذلك فقد كان يجمع بين علوم الظاهر والباطن. وكان يسير في مذهبه الصوفي على مبادئ الطريقة الشاذلية. وكان لا يهتم باللباس ولكنه كان يبدي اهتماما بأحوال الدنيا. كما كان يكره أهل الحضر والحكام العثمانيين. وأصبح كمرابط يتدخل بين الناس لإصلاح ذات البين ويعلم مبادئ الدين التي حرفها البعض عن مواضعها. وقد ذكر أنه أثناء رحلته الأخيرة أخذ معه زوجتيه: عيوشة التي كانت من عائلة المسعود بن عبد الرحمن، وعائشة. وقد قال عن عيوشة التي توفيت له في تونس أثناء عودته من الحج، إنها كانت تحفظ ربع القرآن وتحفظ أيضا الوظيفة الزروقية وجزءا من رسالة ابن أبي زيد القيرواني. وكان له أبناء أحدهم، هو محمد كان متزوجا من فاطمة، أخت عيوشة المذكورة. وقد ذهب معه إلى الحج وروى كيف كان خائفا عليه من اللصوص في الجزيرة العربية.
أعمال الورثلاني
اهتم الورتلاني طوال حياته بجمع العلوم الفقهية وأصول الذّكر على الطريقة الصوفية الشاذلية وإنجاز شروحات مستفيضة عن عالم التّصوف والمُتصوّفة، كما انشغل بالتفسير، وكتابة القصائد. وله عدة مؤلفات سيِّما منها في الشرح مثل: "شرح وظيفة سيدي يحي العيدلي"، للإمام سيدي يحي العيدلي، "شرح وسطى الإمام السنوسي"، و"شرح محصل المقاصد للإمام أبي العباس أحمد بن زكري التلمساني"، و"شرح القدسية للأخضري عبد الرحمن"، شرح مختصر الأخضري في العبادات على مذهب الإمام مالك ويليه للأخضري، وكتاب بعنوان: "شوارق الأنوار في تحرير معاني الأذكار" وهو موجود في مكتبة مدينة تطوان المغربية (مجموع رقم 155)، حاشية على حاشية المحقق السكتاني، ورسالة في قول بعض الأولياء "نسجت برنسا من ماء"، وأخرى "وقفت على ساحل وقفت الأنبياء دونه"، وشرحه لبردة البوصيري، إضافة إلى قصيدة في مدح الرسول صلى الله عليه وسلمَّ من 500 بيت، وقصائد في الرِّثاء لبعض الرّجال المُتصوفة منها قصيدة مشهورة رثا فيها أحمد زروق البرنوسي، وأيضا كتاب الرحلة السُنّية، وكتاب المرادي.
نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار
ألف الورثلاني عدة كتب، معظمها في الفقه والتصوف والتوحيد، لكن أكبر عمل ألفه في التاريخ والأخبار هو "الرحلة" ، وكان له شعور قوي بالتاريخ، خلافا لبعض علماء عصره. فعزم على أن يكتب عملا ضخما يضاهي به أو يفوق عمل الدرعي والعياشي وغيرهما من كتاب الرحلة المغاربة. وقد سمى رحلته تسمية تلفت النظر وهي "نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار". وانتقد في المقدمة عدم اهتمام أهل بلاده بالتاريخ وسخريتهم من دراسته ودارسيه، بينما علم السيرة النبوية جزء منه. واعتبر هو علم التاريخ من العلوم التي تزيد في فضل الإنسان وتبعده عن القبائح. فكان هذا رأيا غريبا من الورثلاني الذي كان مهتما بالتصوف وعلوم الباطن أيضا.
حج الورثلاني مرتين (أو ثلاث مرات) الأولى سنة 1153 والثانية سنة 1166 والثالثة سنة و 117. وفي إحدى هذه الحجات اضطر إلى الرجوع من تونس. وكان قد سافر بالبر لأنه وصف طريقه بالتفصيل. وقد مر الورثلاني في طريقه، بعد أن ودع وداعا حارا عائليا وشعبيا، بقصر الطير حيث آلاف الحجاج من جميع الطبقات والجهات. وقصد سيدي خالد وأولاد جلال وبسكرة، ومنها إلى سيدي عقبة فزريبة الوادي فزريبة حامد، ثم توزر وقابس. وبعد ذلك تابع سيره على الساحل الليبي متوقفا بطرابلس وبرقة.
وقد وصف الورثلاني هذه الأماكن بالتفصيل، كما وصف مصر وأهلها وعلماءها وعاداتها. ومن مصر توجه إلى الجزيرة العربية وتحدث عن ساحل البحر الأحمر وعن القرى والمدن التي تحاذيه وعادات القبائل هناك مع ركب الحجيج المغربي والمصري. كما تحدث، كلما اقترب من مكة، عن العيون والآبار والحياة السياسية والزراعية في المناطق التي مروا بها. وبالإضافة إلى ذلك تحدث عن مكة أيام موسم الحج وعن المدينة وحياتها، وعن العلماء الذين لقيهم. وكان يرغب في الإقامة بالمدينة غير أن أهله لم يتركوه يفعل فاضطر إلى العودة معهم. وقد تحدث هناك عن فقدان الأمن في الطريق ووفرة الماء وقلته ومقابلته لأمير مكة ولأمير فزان، وعن عادات المصريين مع المغاربة.
اعتمد الورثلاني في هذه الرحلة على مصادر كثيرة، فعن الجزائر اعتمد بالطبع على مشاهداته الخاصة، وعلى ما رواه له العلماء الذين لقيهم فيها. وقد طاف فيها كثيرا من غربها إلى شرقها. وكان يهتم خاصة بالزوايا والمرابطين وحياة العامة مع السلطة العثمانية. ومن الكتب التي اعتمد عليها أيضا (عنوان الدراية) للغبريني، و (النبذة المحتاجة في ذكر ملوك صنهاجة) و (الوغليسية) بشرح عبد الكريم الزواوي. أما عن أخبار طريق الحج وتونس ومصر وطرابلس والجزيرة العربية فقد اعتمد على (رحلة) الدرعي بالخصوص، ثم العياشي وعلى (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) و (الأدلة السنية) لابن الشماع وكذلك اعتمد على مؤلفات المقريزي والبكري، والعبدري، والسمهودي وابن فرحون، والشطيبي. كما أنه رجع إلى مصادر أخرى لم يذكرها. وقد أكثر الورثلاني من النقل على الدرعى الذي كان أحيانا ينقل عنه الصفحات كاملة، ويسميه (شيخ شيوخنا).
وقد بين الورثلاني في المقدمة أنه كان ينوي كتابة رحلة عظيمة تكون مفخرة له ولبلاده، ولكنه سرعان ما ظهر عليه الفتور، وأكثر من النقل والاستطراد، وتداخلت معلوماته.
وعندما عاد إلى وطنه أخذ في كتابة الرحلة أو في إملائها، ويبدو أنه كان يمليها على تلاميذه وأنه لم يراجع ما أملاه، لذلك كثر التكرار والأخطاء وتداخل المناسبات. ولعل الكبر قد حال دون المراجعة، رغم أن الإملاء قد تم سنة 1182. وكان الورثلاني عند كلمته، ولا سيما بالنسبة لأخبار المتصوفة. فقد خصص قسما كبيرا من رحلته لأخبارهم في الجزائر وغيرها. وتحدث أيضا عن الخرافات والغيبيات والكرامة المنسوبة إليهم. وتحدث عن شروط الساعة، وكتب بعض مذكراته عند قبر بعضهم تبركا به، وعزم على صيام الدهر، وقال عن الحمى التي أصابته في المدينة إنها هدية من الرسول إليه، وأقر بنبوة خالد بن سنان العبسي، وتوجه بقلبه وروحه لزيارة قبر عبد الرحمن الأخضري، وقبر عقبة بن نافع، وغيرهم من الأولياء والصالحين. وناقش قضية شرب القهوة وتناول الدخان وسماع الموسيقى، واستنكر خروج المرأة متبرجة، وقطع الميراث عنها في بعض الجهات، وغير ذلك من العادات القبيحة في نظره والتي سماها عمل الجاهلية. كما استنكر طريقة الحكم العثماني وقلة العلم في عهده وشيوع الرشوة والاستيلاء على الأوقاف وانتشار الظلم. وقال عن أهل الجزائر أثناء الحج إن (أهل وطننا فيهم الغلظة والجفاء وسوء الأدب وعدم إذعانهم للحكم)، وفي مكان آخر قال عنهم أيضا (وأما الركب الجزائري فلا حكم عندهم أصلا، ولا يتوقفون عند الأمر والنهي). وقارن بين الجزائر وتونس وطرابلس فوجد أن الحياة الاقتصادية في البلدين الأوليين أغنى وأخصب، بينما كانت ليبيا تعيش على ما يرد إليها من الخارج وليس فيها من المناطق الخصبة سوى جزء ضئيل. وهذه الملاحظات نفسها أبداها بالنسبة لمصر والحجاز إذ أكثر من الحديث هناك عن فساد الأمن وقلة المياه وحالة الزراعة ونحو ذلك.
وهكذا يتضح أن رحلة الورثلاني، رغم كل ما فيها، تعتبر موسوعة أخبار عن جزء كبير من العالم الإسلامي في القرن الثاني عشر (18 م). فهي من المراجع التي لا غنى عنها في هذا المجال. وكان تكرار حجه وإتقانه للعربية ومعرفته بعادات الشرق والغرب قد جعلت الورثلاني حكما منصفا على العصر وأهله في كثير من المناسبات.
نقلا عن "تاريخ الجزائر الثقافي" لأبي القاسم سعد الله.