الحراك الإخباري - آخر ما كتبه ولم ينشره علي الكنز الذي غادرنا منذ أيام قليلة
إعلان
إعلان

آخر ما كتبه ولم ينشره علي الكنز الذي غادرنا منذ أيام قليلة

منذ 3 سنوات|الأخبار

المستقبل السابق لحاضرنا
علي الكنز
(آخر ما كتبه ولم ينشره علي الكنز الذي غادرنا منذ أيام قليلة)
ترجمة نور الدين زمام

أنا مدين بهذا التأمل إلى مساعدنا الكبير "البار عمر" وقصيدته "رأْس إِبْنادَم كلَّمْنِي"، ولذكريات والدتي التي همهمت بها في طفولتي المبكرة.
حدث ذلك بسرعة!
منذ بضعة عقود تقريبا، وفي نهاية الستينيات، تم تعييني أستاذًا للفلسفة في ثانوية بالجزائر العاصمة، ومع التخطيط للزواج، شرعت بالبحث عن سكن؛ كان هناك الكثير من العقارات الفارغة، أي تلك "العقارات الشاغرة" الشهيرة، التي تخلت عنها "الأقدام السوداء" عام 1962. لكن الأمر كان يتطلب الكثير من "المعريفة" (التدخل) ابتداء، ومعرفة بالمسؤولين في أي مستوى: الولاية، الوزارات...، رجال نافذون... ولم أكن أعرف أيًا منهم، أو سوى الصغار منهم.
بعد أربعين عامًا، وبعد زيجتين وثلاثة أبناء، ونفي دام أطول من المتوقع، هَآنَذا أبحث عن منزل آخر، ولكنه قار هذه المرة في وطني؛ إما للذهاب بسرعة، نحو المقبرة. ومنذ وقت قليل، أربعون عامًا لاحقا، بعد الركض وراء المسكن، وخلال كل فترات إقامتي القصيرة الحالية في البلاد، وجدت نفسي دون وعي أبحث عن المكان المأمول.
بالطبع، فإن الأفضلية تذهب إلى سكيكدة، وبشكل أكثر تحديدًا إلى مقبرة "القُبية" (El Qôbia)، ليس بعيدًا عن "دار بن حورية" في فوبورج دي لسبيرانس ( ولاية سكيكدة) حيث ولدت. هنالك ينتهي الشارع الرئيسي الذي يعْبر الحي عند طريق مسدود نحو المقبرة؛ كان، في طفولتي، الممر الإجباري لجميع المواكب الجنائزية، والتي خُضتها سيرًا على الأقدام بالطبع، كنّا نُعد السيارات التي يمتلكها "السكان الأصليون" على الأصابع؛ وهذا ما جعل المواكب أكثر إنسانية، والرحلة الأخيرة أكثر تأثيرا، وأكثر "ودية" إذا جاز لي القول.
في المقدمة نجد "النعش" الذي يحمله أربعة متطوعين على أكتافهم، ويتناوب حمله متطوعون آخرون؛ ونجد في الخلف الأقارب والأصدقاء، وقد يلحق بهم تدريجياً من يرغب في ذلك. كان يعتبر حمل النعش أو اتباعه ببساطة "حسنة" وعمل صالح. ولكن، لنكن واقعيين، فطول الموكب كان أيضًا دالاً على سمعة المتوفى وثروته. ففي الحياة يُقاس البشر من خلال موقعهم في المجتمع(1). وهنا تٌقاس بطول الموكب. أمتار قليلة بالنسية للفقراء الذين يتم نقلهم ودفنهم بسرعة؛ وأكثر من ذلك بكثير بالنسبة للأقوى حيث يصل الأمر إلى تشكٌّل حشد كبير. كما كان التمييز الجندري (حسب الجنس) مبرّرا، وقد كنت اتساءل دوما لماذا كان هناك دائمًا عدد أقل من الأشخاص لمرافقة النساء إلى مثواهن الأخير.
كنت مع رفاقي في الحي، نؤدي دور الكبار، حتى أننا كنا نحضر صلاة الغائب، والدفن، ونرمي أيضا حفنة من التراب في الحفرة الجاهزة بالفعل، وبعض أوراق الأشجار كرسالة توديع. كان يتقاسم هوسنا المتجدد باستمرار شعور بالرهبة، والتي تزداد في المساء الموالي. ومن هنا غذّت فترة الظهيرة التي نُمضيها سويا في المقبرة قصصنا ومخاوفنا في الليل؛ قيل أنّ البعض من المدفونين حديثًا شوهدوا لعدة ليال وهم يسيرون ببطء حول المقبرة، أو أنه تمّ سماع أنينٍ حول القبور التي لا تزال حديثة؛ وذهب كل منا في تفسيره، مع ما يشوبه من ارتجافٍ مبعثه الخوف.
من أزمة السكن إلى أزمة المقابر!
دُفنت أمي في هذه المقبرة، وكنت أفكر دوما أن أختم حياتي على هذه الأرض، التي أعرفها جيدا، حتى وأنني اخترت، وكساذج، المكان الذي أريد أن أستريح فيه، ليس بعيدا جدا عن قبرها، بجوار الجدار الذي يفصل عن مدينة الأحياء، ولكن ولسوء الحظ تم إغلاق القُبية، بسبب الاكتظاظ.
دخلت الحياة العملية مع أزمة السكن، وبعد أربعين سنة أغادر مع تلك الأزمة التي تتعلق بالمقابر. صحيح تمّ افتتاح مقبرة أخرى في الزفزاف، لكنني لم أحب أبدا هذه المنطقة من المدينة، كانت مكبّ نفايات سابقا، وهي ملوثة أيضا بطيران وضجيج الطيور الزبّالة. لا أرغب بتاتا أن أقضي حياتي الأبدية هنالك.
 تشبه مقبرة الزفزاف إلى حد كبير الأحياء الجديدة، المجهولة الهوية، والباردة، والتي هي "بلا روح" إذا جاز التعبير. ومن الغريب أنْ تُحاكي المقابر الجديدة المستوطنات الحضرية الجديدة، هنا مواقف للأحياء، وهناك مواقف للموتى.
أذهلني نبأ إغلاق القبية وسألت أخي الذي بقي في بلدتنا "إذا ... لم يكن هناك سبيل إلى..." ، أجاب بما يُخيّب الآمال: "هناك القليل..، من بين "أعيان" المدينة، الذين تم منحهم تفويضا لدفن أحد أقربائهم، ولكن يجب أن تكون نافذا للحصول على هذا الامتياز".
إذن دورة الأزمات لم تنته؟ في شبابي كان المسكن، واليوم القبر، وماذا سيكون الحال غدًا. ولكن، صحيح، ما بعد القبر ليس هناك من غدٍ. لقد فاتتني بدايتها، وكنت وسأفتقد النهاية... يا لها من رحلة حزينة!
لذا، ومن أجل التهدئة، ومن خلال الترشيد ولتخفيف الانزعاج شرعت في اختراع الأسباب: صحيح في سكيكدة سيأتي أطفالي قليلا لزيارة قبري، الجزائر العاصمة سهلة الوصول بشكل أكبر؛ إذن اذهب إلى الجزائر. ولكن هناك أيضًا جميع المقابر مُشبَّعة، خاصة تلك الأجمل حسب ذوقي، والتي تقع على التل المفتوح على البحر، والمغطاة بأشجار صغيرة... وعلى مضض، فكرت في الحل الأقصى: لماذا أتعب نفسي بالبحث عن حلٍ غير موجود في سكيكدة أو الجزائر أو أي مكان آخر في الجزائر، ففي كل مكان تطرح نفس المشكلة؛ قد ينتهي بي الأمر هنا في فرنسا. حيث يتم تجنب متاعب نقل الجسد، وبالنسبة للأطفال ستكون الزيارات أيسر؛ ولا يوجد نقص في الأماكن المبهجة والحمد لله! (2).
صراعات قاسية ووحشية ... لأن الشهية نَهمة
يا لها من سخرية أو بالأحرى من حالة بؤس، أصبحت عليها الجزائر! حياة سيئة، على الأقل كنت سأفهم: نحن نقول "النضال من أجل الحياة"، و"الصراع الطبقي"، وهنا فإنّ هذه النضالات قاسية ووحشية، ولا ترحم، لأن الشهية نهمة شرهة، كما أنّ قواعد احتوائها هشّة؛ لكن "الكفاح من أجل الموت"، من أجل مجرد مربع صغير من الأرض من أجل الراحة؛ قد جرفته أيضا نفس الديناميكية الاجتماعية وما يعتريها من فوضى!. إذا لم تعد العادات القديمة كافية فلماذا لا يوجد قانون، حتى لو كان رأسماليًا لتنظيمه، أو الأفضل سجلاً للأحياء يمنح "الأفضلية للمحليين".
وهآنذا، وفي حالة من الغيظ أحاول تخيل الحلول لهذه الأزمة التي تُردي بغيرها في اللامبالاة العامة. وهذا يقاس من خلال صيانة المقابر، أو بالأحرى من خلال هجرها من قبل "السلطات المحلية" (les Zôtorités locales )، بل وأكثر من ذلك، من طرف السكان أنفسهم. آه! من هؤلاء "الأقدام السوداء" الذين لم يفهموا بعد أن موتاهم ومقابرهم لا تتعرض "للتمييز" أكثر من مقابرنا! أننا جميعًا في نفس المكان، أي في نفس الهجر!
كتب أبو العلاء المعري في مكان ما، أقتبسه من ذاكرتي: أحترمْ الأرض التي تمشي عليها، فالغبار الذي على قدميك يحتوي رُفات أسلافك. كان الشاعر اللاّمع يدري ما كان يتحدث عنه، هو الذي كتب "رسالة الغفران"، حيث نقلنا إلى ما وراء عالم الأحياء ليستهزئ بسخريةٍ من البناء الخيالي لعالم الموتى، أولئك الذين يجب عليهم يومًا ما أو آخر الالتحاق به.
رغم انتقاده من طرف المتشددين، الأوصياء على النظام الديني الذين عاتبوه لمساسه لما هو من الدين بالضرورية، في نظرهم، من أجل الإخضاع بـ "الخوف" لهذا النظام، فإنني توجهت إليه لأفهم ما يحدث لنا اليوم؛ إذْ تخلى الأحياء عن الأموات، وتخلت "السلطات" عن المقابر، وكذلك فعل الناس العاديون، ولا يسعفنا التفسير الوضعي الذي قد يرجع سبب ذلك إلى "التنظيم السيئ" أو إلى "أزمة العقار الحضري"، أو مثلما يعتقد "العلميون" إلى ارتفاع معدل الوفيات وما إلى ذلك. نحن بحاجة للذهاب إلى أبعد من ذلك بكثير، سواء بالنزول إلى أعماق الطبقة السفلية الأنثروبولوجية أو بالصعود إلى أعلى نقطة في حضارتنا لفهم عدم الاكتراث الحديث جدًا بمثوى أمواتنا.
هجر الأحياء للأموات
صحيح ففي جميع أنحاء ما يسمى بالعالم الحديث، نجم عن عدد الموتى "الازدحام"؛ فهم يشغلون مساحة كبيرة في المدن أو في بعض ضواحيها؛ وعندما يرتفع سعر العقارات تزداد المضاربات العقارية؛ وفي كثير من البلدان فإن سعر شراء القبر أو إيجاره ليس استثناءً. وينطبق الشيء ذاته على المواكب والمراسم الجنائزية التي يجب أن تكون سرية وقصيرة وسريعة حتى لا تزعج حركة الأحياء أو هدوء الجيران.
في كل مكان نقوم بترشيد ما كان مقدسًا: فمن خلال حرق الجثث نُقلِّل من حجم المتوفى، وبالتالي تقل تكلفة الحفاظ عليه. وفي مكان آخر يحق لنا الحصول على قبر حقيقي، ولكن لبضع سنوات فقط قبل عملية النقل إلى حفرة تابعة للبلدية إلخ. وعليه، قرر صديقي، وهو أستاذ متقاعد من جامعة نيويورك "الهجرة" في هذا الجزء الأخير من حياته إلى الرباط: هنا، كما أخبرني، أرى المقبرة من شُرفتي. حيث سينتهي بي الأمر، ولن يطردني أحد لأن القانون يمنع ذلك. وعندما أزعجه بإخباره أنه سيأتي اليوم الذي سيتغير فيه هذا القانون مع "رسملة المقدس" يجيبني بهدوء، ربما، ولكنني لن أكون ساعتها هنا.
في الواقع، من خلال تناول قضية أزمة المقابر هذه، ومقارنتها بغباء بقضية الإسكان، فتحت "صندوق الغرائب" « boîte de Pandore » الحقيقي. لقد قارنت ما لا يقبل المقارنة، قارنت "المقدس بالمدنس"، وهذا ليس "مفيدًا"، ولكن له قيمة رمزية لا تقدر بثمن مقارنة بالأشياء التي نستهلكها (أدوات، وطعام، وأدوية...إلخ) بما في ذلك المسكن الذي نحتاج إلى الدفع لسداد تكاليفه. إذن، في ميزان الواحد والآخر، المقبرة، والقبر، والموت باختصار، فمن الواضح أنها تُنسب إلى لا سعر له، ولكن قيمتها لا تُقدر بثمن.
فهي تمنح وجودنا ككائنات حية بُعدًا أوسع بكثير من مدة حياة الإنسان، وهو البعد الذي يمكن للعلميين حسابه (توقع أمل ومتوسط العمر وما إلى ذلك) وتحسينه (الطب والتكنولوجيا الحيوية وغير ذلك) ولكن لا يمكنهم أن يمنحوا ذلك معنًى، أي سببًا للوجود. وهكذا تتعلق أزمة السكن بالدرجة الأولى بالمدنس، بالأسعار، والبضائع، والصراعات الاجتماعية التي أشعلتها، أما أزمة المقابر فهي موجودة في مكان آخر، ضمن ترتيب المقدس الذي أحالني إلى معنى الوجود الإنساني ذاته.

أزمة المقابر ككاشف لأزمة الجزائر
توصلت تدريجيًا إلى هذا الاستنتاج السخيف ولكنه معقول(3): إن الموت هو الذي يُعطي معنى لحياتنا الفردية، ويُدوِّنها لأمدٍ طويل في تاريخنا المشترك (أي ما يطلق عليه علماء الاجتماع الرابط الاجتماعي) وهو يمنحها هذه الذاكرة الجماعية التي تربطها بالأجيال الماضية (وهو ما يطلق عليه علماء الأنثروبولوجيا التجمعات، والأمة، والحضارة)(4). إن علاقتنا بأمواتنا هي أحد أسس وجودنا الاجتماعي والتاريخي، وإن أزمة المقابر كاشف عن عمق الأزمة التي تشهدها جزائر اليوم.
واليوم، على الرغم من أنّ المقابر، والموتى، وقبورهم المتروكة لهم؛ ومع ذلك فإن هذه الظاهرة حديثة، فهي تعود إلى عقود قليلة. بالطبع، يتعلق الأمر بوفيات "طبيعية" كما يقولون هنا. أما بالنسبة للآخرين، مع قلة عددهم: "الأبطال"، نلاحظ وعلى خلاف ذلك اهتمامًا مبالغًا فيه بهم، غالبًا ما تُضخّمه وسائل الإعلام، مما يدفع إلى النسيان والتخلي عن العديد من الآخرين. ومن هنا، فصمت الأغلبية، والخلافات الصاخبة عند الآخرين تشير إلى علاقتنا المتناقضة مع أولئك الذين سبقونا. فلم يختف جلهم بنفس الطريقة.
يعتبر البعض أموات "بشكل نهائي، ومنسيون، خرجوا من الزمن الحاضر وولجوا الخلود، والبعض الآخر يستمر في التحدث إلى الأحياء، كما لو أنهم لا يزالون بينهم، في وسطهم؛ "وسيط" مختفٍ وحاضرٍ في نفس الوقت، لا يزال ينبعث من لدنه رسائل، ومعاني يُسارع الأحياء إلى استيعابها من أجل فهمٍ أفضلٍ -كما يعتقدون- للمشاكل التي يطرحها عليهم الراهن، والتي ليس بإمكانهم السيطرة عليها.
 وهكذا، يتم العثور من وراء القبور على هؤلاء "المرسلين". وعلى عكس الغالبية العظمى من الأشخاص "المنسيين"، الذين يطلبهم الأحياء بشكل مفرط كشهود وعلى الرغم من شرعية أفكارهم ورغباتهم، وأفعالهم. قد أصبح هؤلاء الشهود أعزاء ومحبوبين: سنبحث عنهم بعيدًا جدًا، في العصور السحيقة القِدم، فهم المصدر لكل الأوهام و/ أو في الوقت القريب جدًا، في فترة الاستعمار حتى غاية حرب التحرير، ومن أجل نجعلهم يتكلمون (أليس هذا ما نسميه "محكمة التاريخ") ونجعلهم يعترفون بما نوّد منهم أن يقولونه (5).
 مثل الهيدروكربونات، أصبح الماضي ريعاً
في حال الأبطال "القريبين"، يمكننا أيضًا أن نلاحظ الاهتمام القوي جدًا بمسألة "الأرشيف"، والتي غالبًا ما يُنظر إليها على أنها "الأدلة" الذي طال انتظارها من أجل "الكشف" عن" البعض و"تمجيد" البعض الآخر، وبتشغيل هذه التصنيفات الجديدة لـ "البطولة"، إذا جاز لي القول، فإن ذلك يُضفي الشرعية، وبالتالي يمنح المزيد من المصداقية لمواقف اللحظة القائمة. غير أن هذا البحث الجينيالوجي، المرتبط بسذاجة بـ "الكشف" عن الأرشيف هو من الأعراض، بالمعنى الفرويدي لعلاقة الأحياء بالأموات بـ "الديْن" الذي يدينون به لهم، والذين يتوقعون منهم، وقد يطلبون حتى قرضا من أجل التوظيف. ومثلما ما هو الشأن مع الهيدروكربونات اليوم أصبح الماضي "ريعًا". وكما هو الحال في الغالب بالنسبة للجزائر "فمن الواضح أن هذه الاستدعاءات" تحدث في الغالب في حالة من الفوضى: حيث غالبا ما يصبح "القضاة" مؤرخون هواة، للغويون مستَعْملون (مستهلَكون)، وأئمة ذوو قيمة زهيدة.
إن التخلي الصامت للموتى "العاديين" لمصيرهم إلى جانب الولع بـ "الأبطال"، هو كما يبدو لي هو بمثابة انعكاس للأحياء تجاه أنفسهم، كأفراد وكمجتمع. ولكن، وبعيدا عن الأسباب التي يقدمها البعض أو غيرهم... التقنية هنا، والتنظيمية هناك، هناك أسباب أخرى أعمق سأعرضها بشكل حذر.
من ناحية، توجد صراعات وخلافات أحيانا دراماتيكية حول الشهداء الحقيقيين أو الزائفين. وفي القرى الصغيرة أو المناطق (حيث هناك حراس حقيقيون ضد المغتصبين)، وفي الحركة الوطنية (PPA ، UDMA ،ULEMAS ، MTLD ، إلخ.) (6)؛ وكما هو الحال في الولاءات الدينية (الأصولية، والإخوانية، والسلفية والجزأرة وما إلى ذلك)؛ من ناحية أخرى، هجر البسطاء في مقابرهم. بالنسبة للأوائل أصبح هناك "مربعات للشهداء" محمية الآن، أما بالنسبة للآخرين، من المتوفين البسطاء، فقد شاهدت مقابر بأكملها مهجورة للأعشاب البرية، مليئة بالأكياس والزجاجات البلاستيكية، كما أنني رأيت قبوراً متدلية وخاصة القبور التي تنهبها أيدي البشر.
كما تمّ تسليح أيدي البشر بتيارات حديثة للوهابية الجديدة قادمة من جزيرة العرب، حيث ترجع ايديولوجيتها إلى ابن حنبل (7) ولكن بشكل خاص لمحمد بن عبد الوهاب؛ والتي كانت إلى وقت قريب محصورة داخل شبه الجزيرة العربية، ولكنها تمكّنت منذ ذلك الوقت من الانتشار على نطاق أوسع. ويرجع الفضل في ذلك بشكل خاص إلى التأثير المتزايد لهذا البلد في هذه المنطقة منذ حربي أفغانستان والعراق، وكذلك بسبب ظهور وسائل الإعلام الجديدة (التلفزيون والإنترنت وما إلى ذلك) التي حوت حرفياً جميع البلدان الإسلامية.
 في الجزائر، استهدف مناضلو هذا التيار المقابر على وجه التحديد، معتبرين صيانة القبور عبادة وثنية وبالتالي فهي "شرك". وذهب بعضهم إلى حد مهاجمة مقابر شهداء حرب الاستقلال غلى أساس أنّ معركتهم كانت من أجل "أرض" الجزائر وليس "من أجل الإسلام"، ولذلك فهي لا تستحق لقب "الجهاد" وبالتالي منزلة "الشهيد".
وهاجم آخرون قبور الناس العاديين، ودمروا القبور التي تميز هويتهم الحيّة. وقد عانى مؤلف هذه السطور شخصيا من مثل هذه الأعمال داخل عائلته؛ أما بالنسبة لأولئك الذين ارتكبوا هذه الجرائم، فهم على يقين من أنهم "على الطريق الصحيح" لدرجة أنهم يندهشون عندما نلقي باللوم عليهم. لكن وفي كل مكان فإنّ الشك في عبادة الأصنام يشق طريقه إلى الضمير، ويوصم هذه التصرفات الألفية لصيانة القبور، بشعور مضطرم بسبب فعل مشين "مكروه" إن لم يكن "حراما".
الحرب الأهلية العجيبة والمروعة التي عصفت بالبلاد وقيمها ومعاييرها….
هذه الوصمة "الدينية" لصيانة القبور والمقابر، وهي عادة موروثة في المجتمع الجزائري (8) الذي قاوم بعناد نزعة التشدد لأساتذة الإيمان، وقد تفاقمت فيما بعد، بسبب الحرب الأهلية الغريبة المروعة التي عصفت بالبلاد، وبقيمه، ومعاييره، وتنظيمه الرمزي. وساهم القتل الجماعي والفردي، مع استخدام، وعلى نطاق واسع، أساليب قديمة لقطع الرؤوس ونزع الأحشاء، وأساليب جديدة مثل القنابل أو العقوبات المتسرعة، إلى حد كبير، في انحدار حياة الإنسان إلى مستوى الحيوان. كما أضْفت طابعا بهيميًا على شخص الإنسان.
ورغم أن الحياة الاجتماعية استأنفت منذ ذلك الحين، غير أن الضمائر الجماعية والفردية والأخلاقية والدينية اهتزت بشدة بسبب قيم الوهابية الجديدة وتدنيس الموت، والتي يُضاف إليها ما تعلق بالحرب الأهلية وتدنيس الحياة البشرية. (9)
واليوم، انطفأت الحرب الأهلية كحرب، لكن الشروط التي أوجدتها ما زالت قائمة... والسلام ولو كان نسبيًا، عاد لكن تبعاته على الضمير والسلوك لا تزال سارية. فلقد تفاقمت بسبب الاقتصاد الريعي، والذي قاد الأكثر ضعفا إلى ما دون الإنسانية، وحوّل الأقوياء إلى شكل آخر من أشكال ما دون الإنسانية، حيث تنعكس في المرآة الصور، وهي هنا الكراهية، والاحتقار؛ بينما حلّ الدخول الهمجي إلى الريع محل المحارب من أجل السلطة، من أجل الحق في الإثراء بأيّ وسيلة، حتى بالقتل من دون أدلة.
ومثل شخصيات بورجيس Borges، يتم تهييج الأفراد والجماعات في الحين، فيُمعِنُون في النهب، الكبير والصغير، حيث يتم تهريب رأس المال أو الأنفس، ولكن دائمًا نحو جهة أخرى، ونحو غد غير مؤكد، يتعذر عليهم بناؤه بمرور الزمن.
أزمة المقابر ما هي إلا الصورة المنقولة عن صورة الأحياء. لقد تم التخلي عن الأموات ولكن عن طريق أناس أحياء يتحركون في "سائل" لا حدود له لبورجيس، تلك التي هي لماضي الأسلاف الذين توقفوا عن زيارتهم، أو الأسوأ من ذلك مثل أولئك الذين يعيشون في أفق لم يعد بمقدورهم تخيُّله.
اللجوء إلى "أبطال" التاريخ، البعيد أو القريب، لا يٌعطي معنى للراهن من خلال ربطه بماض مشترك ومستقبل مُتقاسم، فعلى العكس من ذلك فقد يُشحذ الاختلافات، والانتماءات الثقافية والدينية التي تٌغذيها الشهية الريعية باستمرار. إنّ الوفيات الصامتة التي تُترك للأعشاب الميتة يشبه الأبطال الذين يتم استدعاؤهم باستمرار ليشهدوا على حاضر غير مؤكد، وهي لم تنتهٍ منْ أن تَسْكُنُنا، كما كان الأمر عندما كنت صغيراً. لكن صمت العدد الكبير من البسطاء، مثل ثرثرة الأقلية حول الأبطال، فما ذلك سوى رجع النزاعات التي تنتقل إلى مدينة الموتى انطلاقا من تلك الصراعات التي تهتاج داخل مدينة الأحياء.



ملاحظات:
1- أظن أنني أعلم بأن ضريبة خاصة كانت تُفرض على الفقراء (الزواولة) رفعت في القاهرة من طرف إمام حنفي في القرن العاشر لتعويض منْ يوافق على المشيء خلف جنازة من دون أهل، يا له من درس إنساني جميل، قد يمكنه أنْ يدفع إلى التضامن إلى ما بعد الحياة.
2-مع أصدقائي الجزائريين القلائل في مدينة نانت، وخلال لقاءاتنا الصغيرة بعد سوق الأحد، نناقش أحيانًا هذه المسألة، وفهمت أنني لست الوحيد الذي يفكر في هذا الحل النهائي. أود أن أضيف أنني شعرت بالضيق عندما دُفن أحد أصدقائي المقربين، وهو مقاتل سابق في المقاومة، في الولايات المتحدة حيث كان يعيش مع أطفاله: قد وجد أصواتًا "وطنية" لآخر ساعة ينتقدون هذا القرار. يا لبؤس من يمنح نفسه حق الحكم على أقصى خصوصيات الشخص! عانى محمد أركون، بعد الوفاة من نفس اللوم عندما طلب بإرادته أن يدفن في المغرب.
3- تتميز جميع أعمال جورج لويس بورجيس بتوتر دائم (تأملي وشاعري) بين الزمن والخلود، بين الحاضر والماضي والمستقبل. في إحدى هذه القصص القصيرة، يعرض بعض الشخصيات التي حققت في النهاية حلم الغالبية لتصبح خالدة. لكن ها هم منغمسون في سائل (مائع) الذي هو ليس زمنا بحدوده، الأمس والغد، الماضي والمستقبل. وبهذا حرمهم "خلودهم" من إنسانيتهم، من وحياتهم بآلامها ومخاوفها وأفراحها؛ إنهم "لا شيء"، إنهم عدم.
4 - يؤرخ بعض علماء الأنثروبولوجيا ولادة التجانس بظهور القبور الأولى التي قامت بتثبيت، وبطريقة معينة، المجموعات البشرية التي كانت شديدة الحركة في مكان جماعي، والذي هو مقابر الأسلاف، وقد شكل ذلك بداية الجغرافيا البشرية.
5- كان اليونانيون القدماء، الذين أُصر على اعتبارهم أكثر حكمة من الرومان، الذين نتحدث عنهم كثيرًا، وهو يمثلون (اليونايون) جزءا من تراثنا الفكري، حيث ميزوا الآلهة وأنصاف الآلهة من الأبطال. كان الأوائل (الآلهة وأنصاف الآلهة) خالدون أو شبه ذلك، أما الصنف الثاني فكانوا غير خالدين، ومن ثمَّ تقاسموا مع عامة الناس عظمتهم وتفاهاتهم وصفاتهم وأخطائهم. في الحالة التي تهمنا هنا، في الجزائر، تمّ رفع الأبطال إلى مرتبة الآلهة أو أنصاف الآلهة، وبالتالي حرمنا أنفسنا قبول أنهم يتصرفون مثل البشر، ويمكن أن يكونوا ماكرين أو قساة وغيورين، يرتكبون الأخطاء أو يخشون الموت.
إن ملاحظة ما يشكل إنسانيتهم أصبح بعد ذلك جريمة "عيب في ذات البطل"، وتدنيس للمقدس. وعليه. تمّ القيام بذلك معهم بالضبط، وهو ما تمّ فعله قبل وقت طويل من قبل جميع "الورثة" وكتّاب الأنظمة الدينية، "و"المبرؤون من الخطأ"، الذين نمجدهم، ونؤمن بهم ولكن ليس لدينا الحق في ملاحظة وتحليل مثل هذه الموضوعات كمعرفة دنيوية. لقد تم "تقديسهم"، ويمكن للمقدس أن يصل إلى حد تحريم تمثيلهم بالصورة كما هو حال "السلف" بالمعنى الديني للمصطلح، ولكن سُلّم "النهي" متغير حسب الأوضاع.
ولأن "المكرسين" جميعاً، سواء مؤمنوهم أو علمانيّوهم، والمتدينيون، و"السلفيون". فضمن البنية غير المستقرة للذاكرة الجماعية للماضي، سواء كانت قريبة جدًا أو بعيدة جدًا، تحاول كل مجموعة منهم فرض "سلفها" الخاص على الآخرين، و"تكريسهم" على الأمة بأكملها، وقد تأملت قلق الوعي الجماعي، لكن هذه المرة من أجل حاضر غير أكيد، وخاصة للمستقبل. وتعتبر هنا المناشدات المتكررة والمثيرة للجدل "للأبطال الحقيقيين" رسالة استغاثة يخاطب بها الأحياء الموتى.
وللمفارقة، تلقيت عام 2004 دعوة من جامعة جزائرية لحضور مؤتمر بمناسبة الذكرى الخمسين لأول نوفمبر. كانت القاعة مليئة بالطلاب ولكن أيضًا المجاهدين السابقين في هذه المنطقة التي شهدت معارك شهيرة. من بينهم "أبطال" يحترمهم الجميع. بينما كنت أتحدث مؤكداً على إنسانيتهم البسيطة؛ على سبيل المثال ما كانوا عليه خلال طفولتهم ومراهقتهم، وما الذي أحبوه أو كرهوه (الموسيقى والرياضة وغيرها) ، باختصار عن حياتهم قبل الغابة؛ أعترف بأنني كنت خائفًا من إحباطهم من خلال "النزول" إلى هذا المستوى المبتذل من وجودهم، هؤلاء الذين اعتادوا على التحليقات الكبيرة للخطباء المعتادين.
 في نهاية الجلسة، أخذني رجل عجوز، قُدّم إليّ على أنه رئيس لامع لهذه الولاية، بين ذراعيه وقبلني بحرارة. قال لي بضع كلمات لا تزال تتردد في ذهني: أشكرك، لقد منحتني، بتذكيري بها، ذكريات حياتي البشرية، التي لم تعد تهم أي شخص، ولا حتى أطفالي. شكرا لك!
6- انظر على سبيل المثال الأمثلة حول الرحلة الأخيرة لابنة مصالي الحاج إلى تلمسان، أو القصص حول وفاة العقيد عميروش. إنّ مصير ما بعد الموت، المذهل والدرامي لهاتين الشخصيتين البارزين في حركة التحرير يدلّ تمامًا على مخاوف الحاضر الذي يستمر الأحياء في إزاحته على الموتى. ومع تمثلات الأول وتقلباته حسب الظروف يتأرجح بين بطل الأمة والخائن في حربه التحريرية، عندما لم تنته جثة الثاني ورحلاتها الغامضة من إثارة الخلافات الأكثر حيوية، وكل الأبطال الآخرين المُصّنف منهم أو من فقد ذلك، حسب التقارير الخاضعة لميزان القوى آنذاك، وعلى مستوى الوطن بأكمله، وكأيّ منطقة أو مدينة.
وها هو بوعكوير يطرد من الشارع الذي يحمل اسمه كريم بلقاسم، أما فرحات عباس فورث "متأخرًا" مطارًا، وغيرُه يرث على مستوى مدينة إكماليةً أو ثانوية، أو أفضل من ذلك جامعة وشارعا وساحة عامة وحتى حياً. يجب أن ندفع بمجموعة كاملة من الباحثين لمتابعة هذه التقلبات وتحليلها ومحاولة فهم معانيها من خلال تجاوز الاهتمام التاريخي المُعلن إلى القضايا غير الواضحة في الوقت الحاضر. في "النفوس الميتة" أظهر غوغول بروح الدعابة كيف يمكن للمرء أن يستمد فائدة رمزية (ثقافية أو سياسية) أو مادية من سلف مجيد، لكن ورثتنا المحليين لم يضطروا إلى قراءة غوغول للقيام بذلك.
7- ليست الوهابية سوى نسخة من نسخ عديدة من أعمال ابن حنبل، مؤسس المدرسة الفقهية الرابعة الكبرى للإسلام السني. كانت القراءة الحرفية للنصوص المقدسة قد قادت الإمام ابن حنبل إلى رفض أيّ شكل من أشكال التملق أو العبادة غير ما ينبغي تكريسه لله. وقد حرم الإسلام دين التوحيد هذه الممارسات، ولا سيما تلك المتعلقة بالميت؛ وذهب بعض أتباعه إلى حد حظر زيارة المدينة المنورة حيث ضريح النبي محمد عليه الصلاة والسلام، واعتبروا هذه الممارسة انحرافًا "مُجسمًا" يمكن أن يضعف عبادة الله أساسا.
8- قاتل المذهب الحنبلي، والوهابية والوهابية الجديدة بضراوةٍ وفاءَ الأحياء لموتاهم، وبالتالي بناء قبورهم، وهذا ليس غريبا على الإسلام في الجزائر. بالفعل، كان مؤسس الإمبراطورية الموحدية ابن تومرت قد سعى بدافع من الانتقام إلى متابعة أولئك الذين انغمسوا في هذه الممارسات عند عودته من الشرق الأوسط ووصوله المفاجئ إلى بجاية، ومن ثمّ تدمير جميع أشكال الوثنية، مثل المقابر. حول هذا الموضوع انظر العمل الذي خصصه له المؤرخ رشيد بوروويبة، والذي نشرته المؤسسة الوطنية للنشر والتوزيع في السبعينيات. وتجدر الإشارة، مع ذلك، إلى أن هذه الصرامة واجهت دائمًا في بلدان المغرب العربي مقاومة شعبية قوية، حيث عارضتها "الزوايا" وغيرها من الجماعات الدينية التي وقفت ضد تزمت الحنابلة، الذين أضحوا اليوم: الوهابيون الجدد.
9 - من خلال قراءة عناوين الصحف، نكتشف كل يوم المصير الذي ينتظر المصابين بأمراض خطيرة في المستشفيات، والذين هم فقراء بالطبع؛ لكنهم لا يزالون على قيد الحياة، ويُعاملون على أنهم "أموات بالفعل".

تاريخ Nov 9, 2020