صدر حديثا للباحث المؤرخ نصر الدين لعوج كتاب " المشروع الحضاري للثورة الجزائرية"، عن دار " ألفا وثائق" بقسنطينة، حيث إنّ الثورة الجزائرية (1954-1962 م) مثلت أهم معالم القرن العشرين كحدث معلمي حضاري بارز بين الثورات العالمية الكبرى، وكمنعرج حاسم في مصير الشعوب، وتاريخ العلاقات الإقليمية والدولية، لأنها كانت عبارة عن ردود فعل وطنية شعبية واعية عسكريا وسياسيا وفكريا لتحقيق التغيير الجذري، وجسدت حركة تحررية ثورية شاملة امتدت إلى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكل ما يتصل بالإطار الحضاري للشخصية الجزائرية العربية الإسلامية والإنسانية، في مواجهة المشروع الاستعماري الفرنسي الاستيطاني الاستغلالي والعنصري الإقصائي.
وقال المؤلف في مقدمة العمل المميز إنه لا يعقل اليوم بعد مرور سبعة وخمسين سنة عن انتصار الثورة الجزائرية( 1954-1962م) وتجاوز مرحلة الشرعية الثورية في السياسة الداخلية من جهة، والانفتاح في السياسة الخارجية لطي صفحة مآسي الماضي في العلاقات الفرنسية الجزائرية، وإقرار مبدأ التعاون الجزائري الفرنسي في إطار العولمة ومشاريع الاتحادات الإقليمية، واتساع موجة ما يعرف بثورات الربيع العربي – كمحاولة لتشويه مفهوم مصطلح ثورة الشعوب العربية - أن يظل البحث التاريخي متوقفا عند التغني ببطولاتها ومعاركها العسكرية وأحداثها السياسية وانتصاراتها الميدانية، دون طرح جوانبها النظرية لمشروعها الحضاري الكبير في مواجهة الصراع الفكري المرير ضد الإيديولوجية الاستعمارية، واستعادة المعالم الحقيقية للذاكرة الجماعية الوطنية للأمة الجزائرية، بإعادة الاعتبار للعطاء التاريخي الحضاري في الكفاح التحرري الوطني، وربط تواصل الأجيال في المجتمع الجزائري.
وتابع الباحث أنه مهما حاولت هذه الدراسات تأكيد غياب مشروع حضاري على الساحة الجزائرية خلال الثورة (1954-1962) – وهي نفسها التي حاولت من قبل تأكيد انعدام أي تصور إيديولوجي – تحت تأثير ضياعها الإيديولوجي بفعل قناعات إيديولوجية استعمارية، وليبرالية، ويسارية، فإنه لا يمكن أبدا تجاهل الطاقات الروحية والقدرات الحضارية للشعب الجزائري الأصيل، القائمة على البعدين الروحي الإسلامي والقومي العربي، واللذين مكنا الثورة الجزائرية من أن تحمل مشروعا حضاريا سياسيا واجتماعيا وثقافيا للحاضر والمستقبل، لأنها كانت مفعمة بالقيم الروحية والأخلاقية والإنسانية النبيلة من ديمقراطية وحريات أساسية وتضامن وإخاء وتسامح في علاقاتها بالأصدقاء والأعداء على حد سواء، بين أفراد المجتمع الجزائري من جهة، وتكامل في إطار انتمائها الحضاري العربي الإسلامي، وتعاون وتبادل بين المجتمعات الإنسانية المختلفة من جهة أخرى، ظهرت في نصوصها ومواثيقها، وخطب قادتها، ومقالات صحفها ومناشيرها، وفكر مثقفيها، وأدبيات منظريها.
وأوضوح لعوج بأنّ المشروع الحضاري لهذه الثورة في الإطار الجزائري تجسد من خلال بعدها الشعبي الوطني، الذي تمثل تاريخيا في بعث الشخصية الوطنية الثورية، وجيو- سياسيا في بعدها الاستقلالي لإحياء قواعد الدولة الوطنية ذات السيادة الديمقراطية الشعبية في نظام جمهوري برلماني يقوم على أساس مجالس شعبية وقيادة جماعية في كامل التراب الوطني، وصمودها عسكريا، ونجاحها في الدعاية والإقناع إعلاميا، وتطورها اجتماعيا في العمل عن طريق التعبئة الشعبية العامة، وبعث منظمات وطنية جماهيرية، مهامها هيكلة وتعبئة كل القوى الحية في المجتمع الجزائري، وتجنيدها لخدمة أهداف الثورة داخليا وخارجيا، على أساس إرساء أسس العدالة الاجتماعية في مجتمع جديد لا يعترف بصراع الطبقات ويمقت التمييز العرقي والديني، واقتصاديا في رسم مشاريع التنمية والإصلاح الاقتصادي الوطني الشامل في مواجهة المخططات الفرنسية الإغرائية ومشاريعها الاقتصادية لاحتواء الثورة.
وأضاف أن هذا المشروع الحضاري تجاوز الإطار المحلي الوطني، ليمتد إلى الإطار الإقليمي والدولي بتحديد الثورة لدوائر الانتماء الحضاري للجزائر، حيث أكدت الثورة الجزائرية بعدها المغاربي في إطار وحدة شمال إفريقيا، وتمسكت بأصالتها بترسيخ قيم الانتماء القومي العربي الإسلامي في إطار دعم وحدة تضامن شعوب الوطن العربي والعالم الإسلامي، لتوسع الثورة انتماءها الحضاري بتأكيدها على وحدة المصير التحرري بتحقيق الاتحاد الإفريقي ضد الاستعمار، والدفاع عن الإخاء الأفرو- أسيوي خاصة والتحرري عامة، والتزامها اللامشروط بتدمير كل ركائز الاستعمار في العالم.
وكان الأهم في مشروعها الحضاري، بحسب المؤرخ، هو تجاوز كل الأحقاد والضغائن لانفتاح الثورة الجزائرية على المستوى العالمي بالتأكيد على أبعادها الإنسانية والأخلاقية، والتزامها المبدئي بميثاق هيئة الأمم المتحدة، ودفاعها عن شرعية النظام الدولي، وخاصة دفاعها المستميت عن المبدأ العالمي المعترف بحق كل الشعوب في تقرير مصيرها، ومساهمتها في القضاء النهائي على النظام الاستعماري البغيض، وتخليص فرنسا ذاتها من أزماتها.
وعالج الباحث إشكالية الموضوع وفق وثلاثة فصول، الأول على المستوى الوطني الشعبي، تناوله في ثلاث مباحث هي البعد التاريخي والجيو– سياسي وعسكري، البعد السوسيو- اقتصادي، البعد الديني والثقافي والإعلامي.
أما الفصل الثاني فجاء حول "الأبعاد الإقليمية للثورة الجزائرية"، والذي عالجه كذلك في ثلاثة مباحث، هي البعد المغاربي، الأبعاد العربية والإسلامية، والبعد التحرري
وفي الفصل الثالث"عالمية الثورة الجزائرية"، درس المؤرخ البعد الدبلوماسي الدولي، البعد الاستراتيجي في النظام الدولي، والبعد الإنساني.
وفي الأخير فرض تحليل تلك الحقائق وتداعياتها خلال مرحلة ثورة أول نوفمبر طرح سؤال للبحث المستقبلي:هل ستسمح ظروف الاستقلال سنة 1962 بتجسيد هذا المشروع الحضاري؟
وإذا كان الجواب بالنفي – نتيجة واقع الجزائر عشية الاستقلال، يتساءل المؤلف ما هي عوامل إجهاضه؟ وكيف يمكن إحياؤها وإثراؤها والحفاظ على التواصل بين الأجيال (جيل نوفمبر وجيل ما بعد الاستقلال)؟