د. محمد عبد الستار
مازالت التساؤلات قائمة حول طبيعة الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة، وعن خلفيات الموقف الأمريكي تحديدا، وبعض الدول الكبرى أيضا. والحقيقة أن غزة وجدت نفسها في قلب صراع استراتيجي بين القوى الكبرى، وتجاذب عوامل استراتيجية بينها، تتعلق أساسا بالممر الاقتصادي الهندي واكتشاف الغاز في شواطئ غزة، وحاجة الغرب عامة وأمريكا خاصة إلى توسيع "اتفاق ابراهام" لكن "طوفان الأقصى" ضرب تلك الاستراتيجية في مقتل، ولو بصفة مؤقتة، فتم الانتقام من غزة، بهدف توفير العوامل التي تمكن من تنفيذ تلك المشاريع.
لهذا فرض ترامب خطته للسلام
بعد عامين من حرب طاحنة على غزة، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها المعلنة رغم الدعم الغربي خاصة الأمريكي، لذلك تدخل ترامب لفرض خطة للسلام والتي تم التوقيع عليها يوم 13 أكتوبر 2025 بشرم الشيخ، لعدة أسباب لخصها العدد 135 من التقرير الاستراتيجي الصادر شهر أفريل 2024 عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات منها:
- الخشية من الاستنزاف في حربين في نفس الوقت: حرب روسيا على أوكرانيا منذ 2022 وإسرائيل على غزة منذ أكتوبر 2023، ويقع عبء الدعم بالسلاح على البيت الأبيض.
- الخوف من استغلال روسيا انشغال أمريكا بالحرب على غزة لتكثيف الهجمات على أوكرانيا.
- الخشية من استغلال الصين لانشغال أمريكا بحربيها (أوكرانيا وغزة) وشن هجومات على تايوان.
- الخشية من توسيع مساحة الحرب والانجرار لحرب إقليمية بعد تصاعد عمليات جماعة الحوثي في البحر الأحمر باستهداف السفن المتجهة للكيان الصهيوني، وهو ما ألحق الضرر بالتجارة الدولية والكيان الصهيوني، والعديد من الدول.
- تضرر الصورة والاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، كما تضررت صورة إسرائيل في الغرب، وهو تدهور لم يحدث منذ 1948.
وبدون شك، فإن خطة ترامب لم تأت فقط بسبب تلك المخاوف التي شرحتها أعلاه، وليس بسبب رغبة ترامب للاستثمار عقاريا في غزة، وإنما هناك أسباب أخرى أكبر بكثير هي التي جعلت أمريكا تؤيد الحرب وتشارك فيها وتدعمها عسكريا ودبلوماسيا، فطوفان الأقصى عصف ولو مؤقتا بمشروع الممر الاقتصادي الهندي لمواجهة الحزام الصيني، ونسف ولو مؤقتا تمكن إسرائيل في تهجير سكان غزة للانفراد باستغلال الغاز في سواحلها، ووقف الحرب يعيد تلك المشاريع إلى الواجهة.
ماذا فعلت الصين قبل الحرب على غزة؟
قبل طوفان الأقصى بعشر سنوات بالتمام، تمكنت الصين من توسيع نفوذها في العالم، من آسيا إلى أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا، فبدأ الغرب يشعر بالقلق، وزاد في منسوب القلق مبادرة الحزام الذي يمكن الصين من السيطرة على العديد من الممرات البحرية العالمية. وهو من جعل الغرب يعتبر المبادرة بمثابة تحدي استراتيجي، حيث ينتقل مركز الثقل من الغرب إلى الصين.
وفي عام 2023، بمناسبة الذكرى العاشرة للإعلان عن مبادرة الحزام عام 2013، عادت وسائل الإعلام العالمية للحدث، فعددت بالأرقام تطور هذا المشروع، (مثل نون بوست (نون بوست بتاريخ 13/09/2023).
لقد تمكنت الصين من بناء أكثر من 40 ميناء في 34 دولة، وعقد اتفاقيات مع 148 دولة، تمثل ثلثي سكان العالم و40 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، من بينهم 17 دولة في الشرق الأوسط و52 دولة في أفريقيا. وأنفقت الصين أزيد من واحد تريليون دولار على شكل قروض للدول النامية، وبلغ إجمالي حجم تجارتها مع الدول التي تغطيها مبادرة الحزام والطريق ما يقرب من 13 تريليون دولار، وخلقت 420 ألف فرصة عمل وانتشلت 40 مليون شخص من الفقر.
ويتكون هذا الممر، الذي من المقدر أن يغطي أكثر من 2600 مشروع في أكثر من 100 دولة، من 6 طرق رئيسية، ومن هذه الطرق مشروع “الممر الأوسط” الذي يبدأ من تركيا ويصل إلى الصين.
ويصل هذا الطريق إلى جورجيا وأذربيجان وبحر قزوين على التوالي عبر وصلات السكك الحديدية والطرق، انطلاقا من تركيا، ومن هناك إلى الصين باتباع مسار تركمانستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان باستخدام معبر قزوين.
ومن المتوقع أن تؤدي مبادرة الحزام والطريق إلى زيادة التجارة العالمية بأكثر من 6 في المئة، ويقدر الخبراء أن الأموال التي ستنفقها الصين على هذه المبادرة قد تصل إلى 1.3 تريليون دولار بحلول 2027.
الممر الاقتصادي الهندي: استراتيجية الغرب لضرب الحزام الصيني
خلال أعمال قمة مجموعة العشرين بالعاصمة الهندية نيودلهي في 10 سبتمبر 2023، أعلن كل من الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ورئيس الإمارات محمد بن زايد، إلى جانب العديد من القادة الأوروبيين، إنشاء الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وهو مكوّن من مسارين: الأول يربط الهند بالخليج، والثاني يربط الخليج بأوروبا، وتكون “إسرائيل” حلقة الوصل بين المسارين، لذلك اعتبره المشاركون "شراكة تاريخية" لأنه “يُعادل طريقي الحرير والتوابل” رغم اختلاف دوافعهم. كذلك ينافس مبادرة الحزام الصيني.
وقد اعتبر ناتنياهو المشروع الجديد بمثابة إنجاز تاريخي لـ”إسرائيل” وسيحولها إلى ملتقى مركزي للاقتصاد العالمي، ويحافظ على الوضع الراهن للقضية الفلسطينية ويعصف بأي مكسب قد يحصل عليه الفلسطينيون. وبالنسبة للهند سيمكنها من تعزيز موقعها أمام الصين وباكستان وأوروبا والولايات المتحدة والدول العربية.
وكان مقررا عقد اجتماع الشركاء في نوفمبر 2023 للإعلان عن خطة العمل النهائية، والبدء بالتنفيذ الفعلي على أرض الواقع. وإذا بعملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 تعصف بالمشروع. فتم تأجيل كل الاجتماعات، وتأثرت عملية توسيع اتفاق ابراهام بسبب حرب الإبادة.
موقف نيودلهي المؤيد لإسرائيل يفسّر الأهمية الإستراتيجة للمر الهندي
شرح الكاتب أحمد دياب، في دراسة له بعنوان "سياسة الهند تجاه حرب غزة.. التحولات والتداعيات" نشرتها مجلة آفاق أسيوية، المجلد 8، العدد 14، إبريل 2024، أسباب تغير الموقف الهندي من القضية الفلسطينية وانحيازها لإسرائيل في الحرب على غزة، وهو ما يشرح في بعض جوانبه الاستراتيجية الأمريكية تجاه غزة سواء كانت التدمير أو التهجير أو خطة سلام.
ونستخلص من الدراسة، أنه على مدى عقود من الزمن، كانت الهند من بين أقوى الدول الداعمة والمدافعة عن القضية الفلسطينية، وحتى نفهم "الانقلاب الهندي" من القضية الفلسطينية، لا بد أن نذكر بالمعطيات التالية:
- كانت الهند أول دولة غير عربية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1974.
- كانت الهند أول دولة غير عربية تمنح الوضع الدبلوماسي الكامل لمنظمة التحرير عام 1975.
- كانت الهند من بين أوائل الدول التي اعترفت بدولة فلسطين عام 1988.
-في عام 1992 أقامت الهند علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. ومن حينها بدأ الدعم لفلسطين يتراجع.
- في عام 2015 امتنعت الهند عن التصويت في مجلس حقوق الإنسان ضد إسرائيل على الجرائم المرتكبة في حرب غزة لعام 2014. وهي المرة الأولى في تاريخها الذي لم تصوت الهند ضد إسرائيل.
- بعد عملية "طوفان الأقصى"، في 7 أكتوبر 2023، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي من أوائل زعماء العالم الذين أدانوا بشدة ما أسماه "هجمات حماس الإرهابية"، في تبني واضح للسردية الإسرائيلية.
- بتاريخ 27 أكتوبر 2023 كانت الهند من بين 14 دولة التي صوتت ضد قرار الجمعية العامة التي رعته الأردن و54 دولة أخرى لاعتماد هدنة إنسانية تفضي لوقف الحرب.
الممر الاقتصادي من أسباب التحول الهندي من القضية الفلسطينية
هناك عدة أسباب من تحول الموقف الهندي من القضية الفلسطينية بصفة عامة والحرب الأخيرة على غزة بصفة خاصة، لعل أهمها هو حصول الهند على الدعم التكنولوجي العسكري الإسرائيلي، صعود القومية الهندوسية، وتنامي العلاقات التجارية مع إسرائيل منذ 1992 وتطورت لعلاقات أمنية عام 1999 لتصبح إسرائيل ثاني مورد أسلحة للهند بعد روسيا، وبلغ حجم التجارة بينهما 10.1 مليار دولار عامي 2022-2023.
وبعد تذبذب الموقف الهندي من الحرب الروسية على أوكرانيا، وجدت نيودلهي في "طوفان الأقصى" فرصة ذهبية لدعم إسرائيل وإرضاء واشنطن.
ويشكل أيضا الممر الاقتصادي الهندي المنافس لطريق الحزام الصيني الذي ضربه طوفان الأقصى في مقتل، واحدة من أسباب التأييد لإسرائيل.
ثلاثي الغاز وحماس وإسرائيل
لخص تقرير البي بي سي عربي بتاريخ 14 فبراير 2025، وضعية احتياطات الغاز في سواحل غزة، وحساباتها السياسية من طرف إسرائيل، ففي عام 1999 اكتشفت شركة "بريتيش بتروليوم" حقلا للغاز في البحر المتوسط على بعد نحو 30 كيلومترا من ساحل غزة، عرف باسم "غزة مارين"، يقدر بنحو 30 مليار متر مكعب، لكنه حقل صغير مقارنة بالاحتياطات الموجودة في الشواطئ الإسرائيلية والمقدرة بنحو 1000 مليار متر مكعب. الأمر الذي جعل "بريتيش بيتروليوم تستبعد فكرة تطوير "غزة مارين".
لكن بعد اكتشاف إسرائيل كميات ضخمة من الغاز في حقلين مجاورين هما: حقل تمار عام 2009 وحقل ليفياثان عام 2010 تغير الموقف، حيث أصبح حقل غزة مجديا من الناحية الاقتصادية، لأنه بدلا من بناء حفر خاصة به، ومنصات معالجة خاصة به وخط أنابيب خاص به يمتد إلى شاطئ غزة، بات من الممكن الاتصال بالبنية التحتية الإسرائيلية، ما يجعل الحقل أكثر قابلية للاستمرار". لكن إسرائيل لم توافق على تطوير الحقل خوفا من ذهاب عائداته إلى حركة حماس. لذلك تسعى إسرائيل لتهجير سكان غزة وضم غزة تماما للتفرد بكل احتياطات الغاز على الشواطئ الفلسطينية. وهذا ما يفسر حرب الإبادة التي قامت بها وعدم التزامها باتفاق وقف الحرب.
" ناتو عربي-إسرائيلي" في خبر كان
إن المشروعين الكبيرين الذين أشرنا إليهما أعلاه (الممر الهندي، واحتياطات الغاز) لا يمكن تنفيذهما بسلاسة بدون توسيع "اتفاقات أبراهام" إلى دول عربية أخرى لاسيما المملكة العربية السعودية، وقد شرحت بالتفصيل مجلة شؤون استراتيجية العدد 18 جوان 2024، الموقف الأمريكي من حرب إسرائيل على غزة، وأوضحت أن طوفان الأقصى شل عدة مشاريع أمريكية في المنطقة منها ضرب انشاء الحلف "العربي الإسرائيلي" الذي يتولى تحقيق الاستقرار في المنطقة وإدارة الصراع مع إيران وهو ما أشارت إليه وثيقة استراتيجية الأمن القومي التي وقعها بايدن شهر أكتوبر عام 2022 ليكون نسخة من حلف الشمال الأطلسي في الشرق الأوسط وتأسيس علاقة جديدة بين الدول العربية وإسرائيل والقفز على القضية الفلسطينية.
بمعنى أن الحرب الإسرائيلية على غزة بالدمار والتجويع والحصار والقصف والاعتقالات، أججت مشاعر الكراهية لدى الرأي العام العربي، مما يجعل تطبيع دول أخرى عملية صعبة في الوقت الراهن.
أما المسكوت عنه، فيتمثل في قيام دولة فلسطينية مستقلة، وعلى ضوئها يمكن إقامة علاقات عربية مع إسرائيل وإنشاء الممر الهندي واستغلال الغاز. لكن لماذا يريد الغرب قيام هذه الدولة؟ هذا هو السؤال.