الحراك الإخباري - للمؤرخ الفيلسوف غوستاف لوبون: طبعة جزائرية لرائعة " حضارة العرب"
إعلان
إعلان

للمؤرخ الفيلسوف غوستاف لوبون: طبعة جزائرية لرائعة " حضارة العرب"

منذ 4 سنوات|قراءة في كتاب

صدرت حديثا أول طبعة جزائرية لرائعة "حضارة العرب"، للمؤرخ والفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون، تولّى تجمتها عادل زعيتر، ونشرتها مناصفة دار الأدب العربي المصرية رفقة دار الشافعي للنشر والتوزيع بقسنطينة.

يؤرخ لنا هذا الكتاب مجد العرب التَالِدِ الذي يضرب بجذوره في عمق أزمانٍ كان فيها العرب فرسان الحضارة الذين أضاءوا العالم بأمجادهم. ويوضح لنا هذا الكتاب الأقسام التي انقسم إليها العرب، والأمجاد التي حققوها عبر العصور المختلفة، والمبلغ الذي وصلوا إليه في مختلف العلوم والآداب، والفنون، وسياساتهم الحربية، والأدوات التي كانوا يستعينون بها في إدارة رحى الحرب، والنقود التي كانوا يستخدمونها عَبْرَ العصور المختلفة.

وقد ذكر الكاتب طَرَفًا من أخلاق العرب وعاداتهم ومكانة المرأة عندهم؛ لِمَا لها من دلالة على رقيِّهم وتقدمهم، وقد برع الكاتب في الكشف عن أوجه هذه الحضارة، فذكر تفوقهم في الزراعة والصناعة والتجارة. ويمكننا أن نصف هذا الكتاب بأنه جاء كاشفًا عن مكنون الحضارة العربية، جامعًا لعلومها، وفنونها، وآدابها.

وقال المترجم عادل زعيتر إنّ نتائج اصطراع الشرق والغرب منذ قرون مَضَت، وإلقاء العرب الرُّعب في قلوب الأوربيين — جعلت الأوربيين يشعرون بمذلَّة الخضوع للحضارة العربية التي لم يتحرروا من سلطانها إلا منذ زمن قريب، فأخذوا يُنكرون فضل العرب على أوربة وتمدينَهم لها، وأصبح هذا الإنكار من تقاليد مؤرِّخي أوربة وكُتَّابها الذين لم يُقرُّوا لغير اليونان والرومان بتمدينها، وقد ساعدهم على هذا ما عليه العرب والمسلمون من التأخر في الزمن الأخير، فلم يشاءوا أن يروا للعرب رُقيًّا تاريخيًّا أعظمَ مما هم عليه الآن غيرَ ناظرين إلى أن نَجم حضارة العرب أفل منذ أجيال، وأنه لا يصحُّ اتخاذ الحال دليلًا على الماضي.

ولم تخلُ أوربة، مع ذلك، من مؤرخين أبصروا ما للعرب من فضلٍ في تمدين أوربة، فألفوا كتبًا اعترفوا فيها للعرب بما ليس فيه الكفاية.

وقد راعَ هذا الجحودُ العلامةَ الفرنسيَّ الكبير غوستاف لوبون، وهو الذي هَدَتْه رِحلاته في العالم الإسلاميّ ومباحثُه الاجتماعية إلى أن العرب هم الذين مَدَّنوا أوربة، فرأى أن يبعث عصرَ العرب الذهبي من مرقده، وأن يُبْدِيَه للعالم في صورته الحقيقية ما استطاع، فأخرج في سنة 1884 كتابَ "حضارة العرب" الذي نَعرِض ترجمته على الناطقين بالضاد.

وأوضح المترجم في مقدمته أنّ العلامة لوبون سَلَك في تأليف كتاب "حضارة العرب" طريقًا لم يَسبِقه إليها أحد، فجاء جامعًا لعناصر هذه الحضارة وتأثيرها في العالم، شاملًا لعجائبها مفصِّلًا لعواملها، باحثًا في قيام دولة العرب، وفي أسباب عظمتهم وانحطاطهم، مبتعدًا عن أوهام الأوربيين التقليدية في العرب والإسلام.

وتابع أنّ لوبون استعان بطريقة التحليل العلمي على الخصوص، فأوضح في هذا الكتاب الصِّلة بين الحاضر والماضي، ووصَف فيه عِرْقَ العرب وبيئاتهم، ودرس فيه أخلاقَهم وعاداتِهم وطبائعهم ونُظُمهم ومعتقداتِهم وعلومَهم وآدابهم وفنونهم وصناعتهم وتأثيرَهم في المشرق والمغرب، وأسبابَ عظمتهم وانحطاطهم.

لم يكن العرب، على رأي لوبون، من الأجلاف قبل الإسلام، وقد رأى أن السجايا الخُلقِيَّة للعرق العربي هي التي عيَّنَت اتجاهه، وأنه، وإن أمكن ظهور حضارة أمة ولغتها بغتة على مسرح التاريخ، لا يكون هذا إلا نتيجة نُضْج بطيء، وأن تطور الأشخاص والأمم والنُّظم والمعتقدات لا يتم إلا بالتدريج، وأن درجةَ التطور العالية التي تبدو للعيان لا تبلغ إلا بعد الصعود في درجات أخرَ، فإذا ما ظهرت أمةٌ ذاتُ حضارة راقية كانت هذه الحضارة ثمرةَ ماضٍ طويل، ورأى لوبون، أيضًا، أن جهل الناس لهذا الماضي الطويل لا يعنِي عدم وجوده، وأن الحضارة التي أقامها العرب في أقلِّ من مائة سنة، وهي من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ، ليس مما يأتي عفوًا، وأنه كان للعرب قبل الإسلام حضارة لم تكن دون حضارة الآشوريين والبابليين تقدمًا، وكان للعرب، عدا الآثار القليلة التي كُشف عنها، لغةٌ ناضجة وآداب راقية، وكان العربُ ذوي صِلات تجارية بأرقى أمم العالم عالمين بما يَتِمُّ خارج جزيرتهم، فالعربُ الذين هذا شأنهم كانوا، لا ريب، من ذوي القرائح التي لا تَتِم إلا بتوالي الوراثة وبثقافةٍ سابقة مستمرة، والعرب الذين صُقِلت أدمغتهم على هذا الوجه استطاعوا أن يُبدعوا حضارتهم الزاهرة بعد خروجهم من جزيرتهم في مدة قصيرة.

وأشاد لوبون، الذي ذكر استعداد العرب للقيام برسالتهم العظمى، بفضل الرسول الأعظم على العرب، وزَعامته الكبرى لهم، فالرسولُ في نظره "كان يبدو رابط الجأش إذا ما هُزِم، ومعتدلًا إذا ما نُصر"، وذهب لوبون إلى أن الرسول الأعظم "كان شديد الضبط لنفسه، كثير التفكير، صَمُوتًا حازمًا، سليم الطَّوِيَّة … صبورًا قادرًا على احتمال المشاقِّ، ثابتًا بعيد الهمة، لين الطبع وديعًا … وكان مقاتلًا ماهرًا، فكان لا يَهْرُب أمام المخاطر، ولا يُلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في الطاقة لإنماء خُلُق الشجاعة والإقدام في بني قومه … وكان عظيم الفِطنة".

ولم تكن جزيرة العرب قبل الإسلام سوى ميدان حرب دائم واسع لِمَا تأصَّل في العرب من الطبائع الحربية، فقد جاء الإسلام وألَّف بين قلوب العرب ووجَّهوا جميع قواتِهم إلى البلاد الأجنبية، وهم الذين وَرِثوا الشجاعة أبًا عن جد، صَرَعوا الأغارقة والفرس بفضل يقينهم، وصار الناس يدخلون في الإسلام، وينتحلون لغة العرب أفواجًا، وفق ما يقرره المؤرخ.

وهنا يبدو إنصاف العلامة لوبون في بيان أسباب ذلك، فقد صرَّح بأن وضوح الإسلام من أسباب انتشاره، وبأن وضوحه هذا مشتقٌّ من قوله بالتوحيد المحض الذي فيه سِرُّ قوته.

ومن أسباب انتشار الإسلام، كما بَيَّنَ لوبون، ما أمَرَ به من العدل والإحسان، وما انطوى عليه من التهذيب للنفوس والتسامح والملاءمة لمناحي العلم واكتشافاته.

ثم ردَّ العلامة لوبون على الزعم القائل"إن الإسلام انتشر بالقوة"، فمما قاله: "إن القوة لم تكن عاملًا في انتشار القرآن ما تَرَك العربُ المغلوبين أحرارًا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعضُ الأقوام النصرانية الإسلامَ، واتخذوا العربية لغةً لهم، فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل".

وأكد غوستاف أنّ "القرآن لم ينتشر إذن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًا، كالترك والمغول".

وكتب لوبون أنّ الخلفاء السابقين، الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما نَدَر وجودُه في دُعاة الديانات الجديدة، أدركوا أن النُّظم والأديان ليست مما يُفرضُ قسرًا؛ فعاملوا أهل كلِّ قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة، في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعون سابقًا في مقابل حفظ الأَمن بينهم، فالحقُّ أن الأمم لم تَعرِف فاتحين متسامحين مثلَ العرب، ولا دينًا سَمْحًا مثلَ دينهم.

وأكثر لوبونُ، في مواضع كثيرةٍ، من ذكر الأمثلة على تسامح العرب ورأفتهم بالمغلوبين، ولذلك لم يَكَد القرنُ الأول من الهجرة ينقضي حتى كانت رايةُ النبي العربي تَخفِقُ فوق البلاد الواقعة بين الهند والمحيط الأطلنطي، وبين القفقاس والخليج الفارسي وفوق إسپانية.

وبحث العلامة لوبون في القرآن وأصول الإسلام، وفيما يُسنِده بعض كُتّاب أوربة إلى الإسلام من عوامل الانحطاط، كعقيدة القضاء والقدر (الجَبْرية) وأحوال المرأة، ومبدأ تعدُّد الزوجات.

كما عزا لوبون سقوطَ الدولة العربية وانحطاط العرب إلى صفات العرب الحربية المتأصلة التي كانت نافعةً في دَور فتوحهم، فالعربُ بعد أن تمَّت فتوحهم أخذ ميلهم إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ، وقوَّضوا كيانهم بسلاحهم أكثر مما قُوِّض بسلاح الأمم الأخرى، وعزا لوبون انحطاط العرب، أيضًا، إلى ما حدث من قبض أناسٍ من ذوي العقول المتوسطة على زمام دولتهم الواسعة بعد أن كان يُدِير شؤونَها رجالٌ من العباقرة، وإلى ما ألفه العرب من الترف، وما أصابهم من فتورٍ في الحماسة لمثلهم الأعلى، وإلى تنافس مختلف الشعوب التي خَضَعت لسلطانهم، وإلى فساد الدم العربيِّ الذي نشأ عن توالد العرب وتلك الشعوب.

وقد خَصَّص العلامة لوبون فصلًا للحروب الصليبية أشار فيه، غيرَ مرة، إلى الفرق بين الفتح العربي والغارات الصليبية من حيث التسامح وحسن معاملة المغلوبين والسياسة الرشيدة، بل إنه تمنَّى أن يكون العرب قد استولَوا على العالم، ومنه أوربة، لِما كان فيهم من نبيل الطبائع وكريم السجايا.

ونشير أن مساحة تقديم كتاب "حضارة العرب" لا تسع مطالبَ ومناحيَ كثيرةً للإحاطة به، وأن أقلَّ نظرة إلى الفهرس المفصل يدل عليها، فمن درس كتاب "حضارة العرب" وأمعن النظر فيه يتبيَّن له أن العلامة غوستاف لوبون سلك في تأليفه طريقًا جديدًا لم يَسبِقه إليه أحد، وأنه حاول فيه بعث حضارة العرب من مرقدها، وإظهارها للملأ على وجهها الصحيح.

ولم يَألُ العلامة لوبون جهدًا في درس حضارة العرب مستندًا إلى أهمِّ المؤلفات التاريخية، وإلى مشاهداته الشخصية، فجاء كتابُه جامعًا لكثيرٍ مما في تاريخ حضارة العرب من العظات والعبر، وقد أكثر بعض كُتَّابنا من الاستشهاد بجُملٍ منه عند بحثهم في تاريخ الحضارة فصار من الضروريِّ نقله بِأسره إلى اللغة العربية.

وهذا الكتاب صحيحُ المناحي والغايات في مجموعه، وهو كغيره من الكتب المهمة، لا يخلو من هفواتٍ لا تخفى على القارئ، ولكن هذه الهفواتِ لا تَحطُّ من قيمته العظيمة، بسحب ما أورده المترجم في مقدمته.

وبحثَ العلامة غوستاف لوبون في طبائع العرب وعاداتهم ونظمهم في مختلف الأقطار كما كانت عليه في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، فعلى القارئ أن يلاحظ ذلك، وأن يعلَم أن هذا الكتاب ظهر في سنة 1884م، وأن طبائع العرب وعاداتهم تحوَّلت بعض التحول منذ ذلك التاريخ بفعل مبتكرات العلوم والفنون والصناعة، وبفعل علاقات أمم الشرق الوثيقة بأمم الغرب في الزمن الحاضر.

تاريخ Mar 21, 2020