يُعد التحكم في التضخم والحد من تأثيراته أمرًا بالغ الأهمية لضمان الاستقرار الاقتصادي على المدى الطويل في الجزائر. واجهت البلاد تضخمًا وصل إلى 9.3% في عام 2023، والذي تغذيه إلى حد كبير ارتفاع أسعار المواد الغذائية وزيادة السيولة في السوق المحلية. في هذا المقال، نتطرق إلى أصول فائض السيولة في الجزائر، وكيف يتفاقم التضخم، وأهمية التحول نحو الطاقة المتجددة – وخاصة الطاقة الشمسية – للحد من الاعتماد على الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء، مما يمكن أن يفتح المجال لزيادة الإيرادات من صادرات الغاز.
أصول فائض السيولة
يعتمد الاقتصاد الجزائري بشكل كبير على عائدات النفط والغاز التي تشكل العمود الفقري لدخل الحكومة. خلال فترات ارتفاع أسعار النفط العالمية، تراكم الجزائر احتياطات ضخمة من السيولة. يخلق هذا التدفق فائضًا من الأموال، مما يؤدي عند عدم السيطرة عليه إلى التضخم. كما أن الإنفاق العام على الإعانات وأجور القطاع العام يساهم في زيادة السيولة. و لم تطبق الجزائر سياسات نقدية صارمة للحد من هذا المعروض النقدي في حالات اسعار برميل مرتفعة مما أبقى الضغوط التضخمية على حالها بدون معالجة.
شهد استهلاك الغاز في الجزائر انخفاضًا بنسبة 2% في عام 2022 ليصل إلى 50 مليار متر مكعب، بعد زيادة بنسبة 11% في عام 2021. في السابق، انخفض الاستهلاك بنسبة 3% في عام 2020 نتيجة لتراجع الأنشطة الصناعية والهيدروكربونية، وكان يسجل نموًا سنويًا يتجاوز 6% خلال الفترة من 2010 إلى 2019.
تستهلك محطات توليد الطاقة 45% من الغاز، تليها المباني (السكنية والخدمية بنسبة 24%) والصناعة بنسبة 21% في عام 2022. أما الـ 10% المتبقية، فهي تُستخدم في قطاع الهيدروكربونات.
بالإضافة إلى ذلك، يُعد استهلاك الطاقة المحلي – وخاصة الغاز الطبيعي – عاملاً مهمًا. تنتج الجزائر حوالي 130 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، ولكن حوالي 50 مليار متر مكعب يُستهلك محليًا، معظمها في توليد الكهرباء. يمثل هذا الاستهلاك المحلي خسارة كبيرة للإيرادات المحتملة من التصدير، مما يضعف ميزان المدفوعات ويزيد من فائض السيولة.
آليات التحكم في التضخم
التعديلات في السياسة النقدية
رفع أسعار الفائدة: من أكثر الطرق فعالية للحد من التضخم هو رفع أسعار الفائدة، مما يجعل الاقتراض أكثر تكلفة ويقلل من الإنفاق الاستهلاكي. يمكن للجزائر أن تنظر إلى تجارب دول مثل البرازيل، التي واجهت تضخمًا بنسبة 12.13% في عام 2022، ورفعت أسعار الفائدة من 2% إلى 13.75%، مما خفض التضخم إلى أقل من 6%.
تشديد السيولة: بدأت الجزائر في امتصاص السيولة من القطاع المصرفي، ولكن يمكنها توسيع هذه الجهود. كما أظهرت تجربة تركيا خلال أزمة التضخم في 2023، حيث أدت الزيادات الحادة في أسعار الفائدة من 8.5% إلى 30% إلى كبح التضخم الذي بلغ ذروته عند 85.5%.
الانضباط المالي
خفض الإنفاق العام: تواجه الجزائر عجزًا متزايدًا في الميزانية، الذي ارتفع من 7.8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2022 إلى 10.2% في 2023. يمكن أن يساعد خفض الإنفاق غير الضروري، وخاصة على الإعانات، في إدارة الضغوط التضخمية وتحرير الأموال الحكومية للاستثمارات الحيوية. على سبيل المثال، قامت الأرجنتين التي واجهت تضخمًا تجاوز 90% بتنفيذ استراتيجية لتخفيض الإعانات للسيطرة على الاختلالات المالية.
إصلاح الإعانات: يُعد إصلاح إعانات الطاقة أمرًا ضروريًا لضمان استدامة المالية العامة للجزائر وتقليل فائض السيولة. ساعدت تخفيضات الإعانات في البرازيل، خاصة في الوقود، على تحقيق توازن في الحسابات المالية والسيطرة على التضخم.
إدارة سعر الصرف
استقرار العملة: أدى انخفاض قيمة الدينار الجزائري إلى تغذية التضخم، حيث تصبح الواردات أكثر تكلفة. يمكن للجزائر اتباع مثال مصر، التي قامت بتخفيض قيمة عملتها في عام 2022 وطبقت سياسة نقدية مشددة لتحقيق استقرار الاقتصاد. من خلال مواءمة العملة مع الأسعار السوقية، يمكن للجزائر تجنب المزيد من الانخفاض وآثاره التضخمية.
الإصلاحات من جانب العرض
تعزيز الإنتاج المحلي: يمكن للجزائر تخفيف الضغوط التضخمية من خلال زيادة الإنتاج المحلي، خاصة في قطاعات الزراعة والطاقة. من خلال الاستثمار في قدراتها الزراعية، يمكن للجزائر تقليل الاعتماد على واردات الغذاء التي كانت محركًا رئيسيًا للتضخم. قامت الهند بتنفيذ استراتيجية مماثلة، حيث وسعت إنتاج الغذاء وأقامت سلاسل إمداد أقوى، مما دفع إلى استقرار الأسعار المحلية خلال فترات التضخم.
دور الطاقة المتجددة في تقليل استهلاك الغاز
تواجه الجزائر تحديًا كبيرًا يتمثل في الاعتماد المفرط على الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء. في عام 2023، حرقت الجزائر حوالي 21 مليار متر مكعب من الغاز لتلبية احتياجاتها من الكهرباء. لا يقتصر استخدام الغاز لتوليد الطاقة الكهربائية على تقليل القدرة على تصدير الغاز، بل يمثل أيضًا خسارة فرصة لكسب العملة الأجنبية. من خلال التحول إلى الطاقة المتجددة، وخاصة مشاريع الطاقة الشمسية الكبيرة، يمكن للجزائر أن تقلل بشكل كبير من استهلاك الغاز المحلي وتصدر المزيد من الغاز إلى الأسواق الأوروبية والدولية.
مثال على مشاريع الطاقة الشمسية الضخمة
يُعد منتزه بادلا للطاقة الشمسية في راجستان، الهند، أحد أبرز الأمثلة على نجاح مشروعات الطاقة الشمسية الكبيرة. تبلغ طاقته حوالي 2.25 جيجاوات (بما في ذلك التوسعات) وتم بناؤه بتكلفة تقدر بحوالي 1.3 مليار دولار للمراحل الأولية. يغطي المنتزه حوالي 58,000 هكتار في منطقة صحراوية تتمتع بإشعاع شمسي عالي، مما يجعله مثاليًا لإنتاج الطاقة الشمسية.
إذا قامت الجزائر باستثمار 10 مليارات دولار في الطاقة الشمسية اليوم، يمكنها توليد حوالي 15 جيجاوات من الطاقة المتجددة بحلول عام 2027. هذا المستوى من الإنتاج سيقلل من استهلاك الغاز المحلي لتوليد الكهرباء من 21 مليار متر مكعب سنويًا إلى أقل من 10 مليارات متر مكعب، مما يحرر 11 مليار متر مكعب للتصدير. مع تراوح أسعار الغاز حاليًا بين 200 إلى 300 دولار لكل ألف متر مكعب**، يمكن أن يُنتج هذا التحول عائدًا إضافيًا يتراوح بين 2.2 إلى 3.3 مليار دولار سنويًا من إيرادات التصدير. سيساهم هذا في تخفيف الضغط على إمدادات الغاز المحلية وتعزيز مكانة الجزائر كمصدر رئيسي للغاز للأسواق الأوروبية التي تسعى بشكل متزايد للحصول على بدائل للغاز الروسي.
إنتاج الغاز والقدرة على التصدير
تنتج الجزائر حاليًا حوالي 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا، وبينما تم تصدير حوالي 52.4 مليار متر مكعب في عام 2023، يمكن للبلاد زيادة صادراتها بشكل كبير من خلال تقليل استهلاك الغاز المحلي. سيعزز هذا موقع الجزائر كمورد رئيسي للطاقة إلى أوروبا، خاصة مع سعي الدول الأوروبية لتنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن الغاز الروسي.
الخاتمة: الطريق إلى الأمام بالنسبة للجزائر
تواجه الجزائر تحديات كبيرة في كبح التضخم وإدارة فائض السيولة. ومع ذلك، من خلال تنفيذ سياسات نقدية أكثر صرامة، وتحسين الانضباط المالي، وزيادة الإنتاج المحلي، وخاصة في قطاع الطاقة المتجددة، يمكن للبلاد تقليل الضغوط التضخمية وزيادة مرونة اقتصادها. يُعد الاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية الكبيرة استراتيجية رئيسية لتقليل استهلاك الغاز محليًا، مما يسمح بتصدير المزيد من الغاز وتوليد إيرادات حيوية من العملة الصعبة. مع الإصلاحات والاستثمارات المناسبة، يمكن للجزائر استغلال مواردها الطبيعية وإمكانات الطاقة المتجددة لضمان استقرار اقتصادي ونمو مستدام على المدى الطويل.
زهير شيخي
مهندس مختص في الاقتصاد و النفط