سيدي بن خلوف..اسم من ذهب في قائمة تاريخ زاخر من الأولياء الصالحين الذين كتبوا أسماءهم لامعة في سجل تاريخ الجزائر والأمة العربية بأكملها، واسمه الحقيقي، أبو محمد لكحل بن عبد الله بن خلوف المغراوي، ينحدر من قبيلة الزعافرية ذات الأصول الشريفة، وهو من أشهر وأكبر الأولياء الصالحين في الجزائر، ولد في حدود سنة 899 هجرية (1479 ميلادية) وتوفي في سنة 1024 هجرية الموافق لـ(1585 ميلادية)، أي أنه عاش 125 سنة وستة أشهر في القرن التاسع الهجري وهو ما أكده في إحدى قصائده، حيث شارك في معركة مزغران التي شنها العثمانيون ضد الأسبانـ والتي وقعت في 26 أوت 1558، وقد ألف قصيدة تصفها بدقة الواقعة، ولذلك تعدّ قصيدة "قصة مزغران" من المصادر التاريخية التي أرّخت للمعارك الطاحنة بين الجزائريين والأسبان، إذ أورد تفاصيل مهمّة عن المعركة بصفته مشاركا ومقاتلا في جيش حسن باشا.
قضى بن خلوف، الجزء الأكبر من حياته في بلدة مزغران، ويعد أحد حراس مدينة مستغانم السبعة، أشعاره تخطت شهرتها حدود مسقط رأسه وبلده الجزائر، تزوج امرأة تدعي "غنو" ابنة الولي الصالح سيدي عفيف شقيق سيدي يعقوب الشريف المدفون بغرب مدينة سيدي علي، ورزق منها ببنت اسمها حفصة، وأربعة ذكور، أحمد، محمد، أبو القاسم، الحبيب، وهي كلها أسماء النبي عليه الصلاة والسلام، وسمي هذا الولي الصالح، "لخضر" بدلا من اسمه "لكحل"، ومرجع ذلك إلى سنة حميدة للنبي صلي الله عليه وسلم، تقضي بإتباع الفأل الحسن، فلكحل معناه الأسود ويرمز إلى الشؤم، عكس الأخضر الذي يعتبر لون السلام .
//////// الأخضر بن خلوف في رحلة البحث عن شيخ وقته وقطب زمانه
الوصول إلى الله والفناء في حبّه هو هدف الأهداف وغاية الغايات عند الصوفية،ولتحقيق هذه الغاية ولتنفيذ هذا الهدف أوجبوا على المُريد الصوفي مصاحبة شيخ عارف وقطب محقق، فذاك من ضرورات الطريق إلى الله عندهم، يقول الأمير عبد القادر الجزائري "وإنما وجب على المريد طلب الأكمل الأفضل من المشايخ خشية أن يلقي قيادَهُ بيد جاهل بالطريق الموصل إلى المقصود، فيكون ذلك عوناً على هلاكه "، .بل إن الأمير عبد القادر الجزائري يحكم على المسلم الذي لا شيخ له من رجال التصوف بانتفاء الإخلاص مطلقا من قلبه حتى يصحب شيخا عارفا يعرفه بنفسه وبربه، حيث يقول" إن كل من لم يسلك طريق القوم (الصوفية) ويتحقق بعلومهم حتى يعرف نفسه، لا يصـــــح له إخـــــلاص ولو كان أعبد الناس و أورعهم وأزهدهم وأشدهم هروبا من الخلق واختفاء وأكثرهم تدقيقا وبحثا عن دسائس النفوس وخبايا العيوب، فإذا رحمه الله تعالى بمعرفة نفسه، صـــــح له الإخلاص ".
وعلى غرار باقي الصوفية الباحثين عن الصفاء وعن التوحيد الخالص، أخذ الأخضر بن خلوف يبحث عن شيخ مربي وعن قطب محقق واصل، حتى هاداه الله وأنعم عليه بالالتقاء مع القطب سيدي أبي مدين شعيب في مدينة تلمسان .
وتفاصيل رحلة البحث عن هذا القطب، أفرد لها بن خلوف قصيدة كاملة يروي فيها حادثة لقائه مع أبي مدين، وهي "قصيدة الأمانة"، من أشهر القصائد المنسوبة إليه، وهي مكتوبة باللغة الدراجة الجزائرية، وفيها يتحدث بن خلوف على قصته في البحث واللقاء أخيرا مع شيخه أبي مدين. ويبدو أن هذه القصيدة هي من القصائد التي كتبها ابن خلوف في أواخر عمره، لأنه يصرح فيها انه ارتقب خمسين عاما كاملة وهو ينتظر هذا اللقاء العظيم، كما أن الأربعين سنة الأولى من حياته لم تكن في طريق التصوف كما يقر ويعترف هو في كثير من قصائده، فإذا حسبنا تقريبا عمره حينما تم له الالتقاء يكون سنه ما يقارب المائة سنة، فتكون هذه القصيدة وهذا اللقاء بينه وبين أبي مدين في أواخر عمر الشيخ الأخضر بن خلوف.
في بداية القصيدة يظهر سيدي لخضر بن خلوف سعادته الكبرى وفرحته العارمة بلقاء سيدي بومدين قائلا " آه يا سعدي وفرحتي من بومدين المغيث جبت الأمانة بها وفّيت حاجتي "، أي أن سعادته الكبرى وفرحته العظمى كانت يوم اللقاء بأبي مدين المغيث، وكلمة المغيث المضافة إلى اسم سيدي بومدين يقصد الخلوفي بها الإشارة إلى مقام الغوثية الذي وصل إليه الولي الصالح أبومدين شعيب، كما يقصد بالأمانة في القصيدة كلها الإقرار والاعتراف بالولاية، وان الشيخ الأخضر بن خلوف قد ترقى في مقام الولاية وأصبح وليا لله.
هذا المقام الروحي الشامخ الذي يقول بن خلوف إنه انتظره خمسين عاما ليصل إليه في الأخير وبمباركة سيدي بومدين، " من بعد خمسين عام وأنا نستنّ*سعيت بروح راحتي" –نستن- كلمة دراجة معناها انتظر، أي أن بن خلوف لم يبلغ هذا المقام السامي إلا بعد طول انتظار واستماتة بروحه وراحته لبلوغه.
ويصف سيدي لخضر لقائه بسيدي بومدين بأنه" من نعايم الأسرار" الأسرار التي اختصها الله وخصها بأوليائه المقربين، وأنه قبل هذا اللقاء الروحي كانت تنتابه نوبات من الضيق والحرج حتى" حتّى جاد الإله من ليه البقا * انعم عليَّ بزيارة إمام الجدار"، أي أن الله الباقي الجواد المنعم، قد جاد وأنعم أخيرا على سيدي لخضر بزيارة أبي مدين شعيب الذي يصفه بأنه إمام الجدار. والجدار هنا يمكن أن يكون له عند ابن خلوف إحدى المعنيين، إما أنه الجدار المشار إليه في سورة الكهف في قصة موسى والخضر كما هو الاعتقاد الشعبي عند بعض سكان تلمسان، أو لعله يقصد بالجدار هنا، حائط البراق في القدس الشريف، الذي أوقفه الملك الأفضل بن صلاح الدين الأيوبي ( سنة1193 م 583 هـ) لسيدي بومدين وورثته.
////////////ضريحه وآثاره الشعريّة ومقاماته الصوفيّة
ويعد رصيد بن خلوف، الذي تركه من تراث أدبي خاصة في مجال الشعر الملحون، كنزا وإرثا حضاريا، لا زال حاضرا منذ القرن الـ 16 إلى يومنا الحالي حيث يتغنى به الشعراء، كما تقول الروايات أنه كتب نحو 700 قصيدة كاملة خبأها في القبور التي كان يرتادها وقد تحدث عنها في قصائده حيث يقول: "عندي خزنة من القصايد مغبورة هي لبن خلوف تشهد"، ولم يتم العثور على كل القصائد التي ألفها، غير أن كنوزه الشعرية المتوارثة شفهيا، تبقى شهادة حية على مر الزمن، إذ كانت منبعا للأدباء من أمثال الحاج بوفرمة واحد من سلالة سيدي لخضر بن خلوف، ألف ديوانا تحت عنوان "الوجيز المعروف في حياة سيدي لخضر بن خلوف"، حيث أنه وبالنظر لتعلقه بشعر سيدي لخضر حاول في تجربته الثانية في تأليف هذا الديوان الذي سبقه بديوان أول سماه "ديوان سيدي لخضر بن خلوف..حياته وقصائده"، يحتوي على 49 قصيدة ، كما يتحدث فيه عن حياة الشاعر كاملة، مضيفا بأن لديه حوالي 110 من قصائد سيدي لخضر كما يملك الباحث، عبد القادر بن دعماش، الذي سبق أن أشرف على مهرجانات الشعر في تراث هذا الولي الصالح 150 قصيدة .
وقد توصّل المختصون من خلال دراستهم إلى أنّ شعر سيدي لخضر بن خلوف قد خُصَّ بميزات رائدة في عصره، و هي مظاهر الصّلاة على النّبي و التّنويع في تراكيبها و تواترها عبر جموع قصائده ، ممّا جـعل قصائده في مدحِ سيّد المرسلين من الأناشيد التي أضحت تلقّن في الزّوايا الـجزائريّة، و التي تلقى الإعجاب من المريـدين و مشايخ الطّرق الصّوفيّة.
أما المقامات الصّوفيّة في شعر سيدي لخضر بن خلوف، من خلال تحليل قصائده فهي تستقطبُ مقاماتٍ، ذلك أنّ الشّاعرَ صوفيّ و تعابيره الشّعريّة تكشف- لمن تمعّن فيها- مظاهر مدارج السّالكين إلى حبّ ربّ العالمين، و تكشف أيضا عن روحانيّة الشّاعر من خلال شعره، ممّا يسلّم إلى تبنِّي تلكم المقامات باعتبارها السّبل التي ينتهجها المحبّ في لحظات الترقِّي، وهي أوّلا:مقام الحبِّ و العِشق مرهونٌ بغرض المدح، ثانِياً: مقام التّـوبة، و ثالِثاً: مقام الزّهـد مرهونٌ بغرض الحِكمة و الموعِظة، رابِعاً: الكرامات مرهونة بالعطايا الإِلهِيّـة.
يوجد ضريح سيدي لخضر بن خلوف بمدينة سيدي لخضر والتي تحمل اسمه وتبعد عن ولاية مستغانم بـ 50 كلم، وتوجد جانب ضريحه أقدم نخلة في العالم يزيد عمرها عن ستة قرون، مازالت ثابتة وشامخة إلى يومنا هذا، حيث أشرف هو بنفسه على بنائها، إذ أوصى الولي الصالح أبنائه بدفنه أمام نخلته حيث جاء في وصيته : "النخلة المثبتة من بعد اليبوس، حذاها يكون قبري يا مسلمين".
ق.و