الحراك الإخباري - كتاب من تقديم الدكتور عبد المجيد النجار: فقه التّنزيل حقيقته وضوابطه
إعلان
إعلان

كتاب من تقديم الدكتور عبد المجيد النجار: فقه التّنزيل حقيقته وضوابطه

منذ 3 سنوات|قراءة في كتاب

إنّ المسلم مطلوب منه أن يتديّن بالإسلام بالتفهّم لأحكام الدين تفهّما يعقبه التصديق الإيماني، ثم بتنزيل ما آمن به في واقع السلوك، فإذا ما اختلّ الجزء الأول آل التديّن جملة إلى الانتقاض، وإذا ما اختلّ الجزء الثاني قصُر عن أن يكون هو التديّن المطلوب، وقد يؤول عند بعض المسلمين إلى درجة الانتقاض، إذ الإيمان عندهم لا يتحقّق إلا بالعمل.

ولا تخرج مجمل العلوم الإسلامية عن أن تكون بيانا للدين كيف يُفهم وكيف يُنزّل، فقد تكفّل علم العقيدة بتحديد حقائق الدين كما هو مطلوب أن تكون محلاّ للإيمان التصديقي، وتكفّلت العلوم الفقهية ببيان حقائق الشريعة كما هو مطلوب أن تؤخذ من أدلّتها، وأن تُضبط أحكامها، وتكفّلت علوم القضاء والفتوى ببيان تنزيل تلك الحقائق على وقائع الحياة.

وإذا كان فقه التفهّم للدين أمرا مهمّا من أجل التديّن، باعتبار أنه هو أساس ذلك التديّن، إذ التصوّر الإيماني يسبق العمل السلوكي، فإنّ فقه التنزيل لأحكام الدين على واقع الحياة يُعدّ هو أيضا أمرا مهمّا لا يكتمل الدين إلا به؛ وذلك لأنّ هذا الدين ما نزل إلا لتحقيق مصلحة الإنسان، وهذه المصلحة مهما تكن محدّدة على وجه الحقيقة في الأحكام المأخوذة من نصوص الوحي، ومهما بدت في صيغتها النظرية محققة لتلك المصلحة حينما تُنزّل على أجناس الوقائع، فإنها حينما تُنزّل على الوقائع العينية التي تجري بها الحياة في مستأنفات أوضاعها قد يبدو أنها في بعض المفردات من تلك الوقائع تكون غير محققة للمصلحة فيها، وذلك لملابسات قد تحفّ بتلك المفردات تحول دون تحقّق المصلحة حين تنزيل الأحكام العامة عليها.

والغفلة عن هذا الفقه التنزيلي قد تؤدّي بالتدين إلى الشدّة والحرج، إذ تنتهي إلى أن يكون تنزيل الأحكام على الوقائع تنزيلا آليا، فلا تُعتبر فيه مآلات الأحكام في تحقيق مقاصدها من عدمه، فإذا ما وُضع من حكم لتحقيق مصلحة قد يفضي إلى مفسدة، وما وضع لدرء مفسدة قد يؤول إلى جلبها، والمتأمّل في الواقع الراهن للمسلمين اليوم فيما يضطرب به من أحداث تُقترف باسم الدين من قِبل بعض الأفراد والجماعات الغافلة عن فقه التنزيل شاهد على ما تنتهي إليه هذه الغفلة من مفاسد تلحق الإسلام والمسلمين.

وبالرغم من هذه الأهمّية لفقه التنزيل إلا أنّ هذا الفقه لم يحظ في علوم الدين بما يناسب تلك الأهمية من الدرس، إذ لا نجد في هذه العلوم وأقربها إليه علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة بابا من الأبواب أو فصلا من الفصول أو فرعا من الفروع خاصا به، يؤصّل كلّياته، ويبيّن قواعده، ويضبط تفاصيله، وإن تكن بعض أطرافه مبثوثة هنا وهناك في ثنايا هذا العلم أو ذاك، ولكنها أطراف غير مؤصّلة ولا مفصّلة بحيث ترشّد التنزيل كما هو الأمر في تلك القواعد والتفاصيل التي ترشّد الاستنباط والفهم، فكان ذلك ثغرة انتظرت طويلا من يكمّلها في علم الأصول والمقاصد، وقد بدأت الدراسات والبحوث تهتمّ بهذا الأمر منذ بعض الزمن في نطاق الأطاريح الجامعية والرسائل الأكاديمية.

عنوان مبتكر وغير مسبوق

وفي هذا السياق تندرج هذه الأطروحة التي أنجزتها الباحثة وسيلة خلفي، الأستاذة بكلية العلوم الإسلامية لدى جامعة الجزائر، وعضو المجلس الإسلامي الأعلى، بعنوان " فقه التنزيل: الحقيقة والضوابط"، وهو عنوان مبتكر، إذ هو لم يكن مسبوقا على هذا الوجه الاستقلالي، مثلما يسجل العلامة عبد المجيد النجار.

وإذا كانت مثل هذه البحوث التأسيسية لا يمكن أن تكتمل ثمارها إلا بالتراكم فإنّ صاحبة هذا البحث قد فازت بالسبق في طرح المشكلة، وفي وضع لبنات هامّة في فقه التنزيل، من شأنها بالتنامي أن تكون مرشّدا لتنزيل الأحكام على الوقائع بما يحقّق مقاصد الشريعة.

وقد اتّصف ما وضعت الدكتور خلفي من هذه اللبنات بالدقّة والوضوح، وبالتأصيل في نصوص الوحي واجتهادات الأئمة، فجاء بحثها علميا منهجيا موثقا، فيمكن أن تفخر به المكتبة الأصولية لما يسهم من سدّ ثغرة في رفوفها، ولما يصلح به أن يكون منطلقا صلبا للتكملة في هذا الفرع الأصولي.

وبما أنّ هذا الفقه التنزيلي يندرج ضمن باب الاجتهاد، فإن الباحثة صدّرت بحثها بمقالة عن الاجتهاد عموما، لتبيّن بذلك في إيحاء يعترف للعلماء السابقين بفضلهم في تقرير علم الاجتهاد أنّ هذا الفقه التنزيلي لم يكن آخذا حظه اللائق به في ذلك العلم من حيث إفراده بفرع خاص أو فصل مستقلّ مهما يكن من ورود أطراف منه مبثوثة في أبواب وفصول أخرى منه، مبيّنة الحاجة إلى أن يكون لهذا الفقه مقام خاصّ به تدعو إليه الضرورة إلى القواعد الأصولية بصفة عامّة، كما تدعو إليه الظروف الواقعية الراهنة بصفة خاصّة.

ثمّ انتقلت الباحثة إلى بيان حقيقة هذا الفقه التنزيلي، والأركان التي يتأسّس عليها، والفرق بينه وبين الفقه الاستنباطي، والمقامات التي هي أكثر مظنّة لاستعماله فيها، وقد دعاها إلى هذه البيانات أنّ هذا الفقه بهيئته المستقلّة غير معهود في الدراسات الأصولية، وإنما المعهود منها هو ما يتعلّق بفقه الاستنباط الذي يشكّل أعمدة هذه الدراسات، فكان هذا البيان واردا في محلّه المطلوب.

وبعد هذه المقدّمات التعريفية تتبّعت الباحثة بشيء من التفصيل المقامات التي يكون فيها تنزيل الأحكام مرتّبة بحسب تنوّع المكلّفين بالتنزيل، وهم: الإمام، والقاضي، والمفتي، والمكلّف، فبيّنت في كلّ مقام من هذه المقامات الأسس المنهجية التي على المكلّف فيها أن يأخذها بعين الاعتبار في الاجتهاد، وهي أسس لئن اشتركت في بعض القواعد الجامعة، فإنها تختلف في بعض القواعد الأخرى باعتبار الاختلاف في الطبيعة بين مقام وآخر من تلك المقامات، فجاءت نتائج البحث موفّقة في إفادتها لهذا النوع من الاجتهاد لكلّ من أراد ممارسته ابتداء من الإمام وانتهاء إلى المكلّف في خاصّة نفسه.

وقد عمدت الباحثة في إنجاز أطروحتها إلى إجراء استقراء في دائرة واسعة من المدوّنة الأصولية والمقاصدية في مصادرها المعتبرة، ومراجعها الجادّة، فجمعت منها ما كان منثورا في ثناياها مما يتعلق ببحثها، وألّفت بعضه إلى بعض، بمنهجية مقارنة استنتاجية، حتى توصّلت إلى رسم خارطة عامّة لفقه التنزيل في فرع مستقلّ يمكن أن تكون مرجعا مهمّا في هذا الباب من أبواب الاجتهاد.

وإذ أنّ الأستاذة الباحثة قد قامت بهذا العمل الجدّي المفيد، فكم تمنّى الدكتور عبد المجيد النجار صاحب التصدير، أن تواصل البحث فيه بعد تحرّرها من التزامات الشهادات العلمية ومقتضياتها، لتفتح في كلّ باب من الأبواب التي انتهت إليه في فقه التنزيل أبوابا أخرى أكثر تأصيلا وتفصيلا، فإنّ هذا الفرع العلمي ما يزال في تقديره بكرا يحتاج إلى المزيد من الدرس حتى تستبين أركانه، ويستوي على دعائم قوية، ليكون مكافئا في الاهتمام به والشرح لمسائله والتقعيد لجزئياته وتفاصيله لفقه الاستنباط، فإذا علم الأصول يطير بجناحين: فقه الاستنباط وفقه التنزيل، فعسى أن تكون الأستاذة الباحثة وسيلة خلفي وقد وضعت أقدامها على صعيد صلب من هذا البحث أن تكون إحدى الرائدات في تنميته وتطويره، يقول النجار.

 الأهمية العلميّة لأطروحة الكتاب

 أما أهمية الموضوع من وجهة نظر المؤلفة وسيلة خلفي، فهي إجابته عن الإشكاليَّة المستمرّة المتعلّقة بربط وقائع الناس بالأحكام الشرعية، فاستجابة الرّعيل الأوّل للإسلام وامتثالهم للنّصوص الشرعيّة في تفاصيل حياتهم اليومية مما يدخل في مسائل الفقه الفرعية العملية، ليست يقينا بالصّورة نفسها التي يمارسها هذا الجيل المتأخّر، خاصّة في باب المعاملات، وفق تعبيرها.

والأحكام الاجتهادية التي توصّل إليها الفقهاء في عصر من العصور وبيئة من البيئات لا تُجيب بالضّرورة، بسحب الباحثة، عن انشغال عصر آخر أو بيئة أخرى، وقد قرّر الفقهاء أنه "لا يُنكر تغيّر الأحكام بتغيّر الزّمان.

وهذا البحث إذ يتناول موضوع تنزيل الأحكام الشرعية على الحوادث والوقائع المتجدّدة بفقه ودراية، فإنه يسعى للكشف عن نوع من النّظر المتعلّق بالأحكام الشرعية من حيث نوع الاجتهاد المطلوب عند استنباطه أولا، ثم تنزيله على محلّه ثانيا، وهو نظر كان موجودا لدى الفقهاء المتقدّمين مبثوثا في اجتهاداتهم فتوى وقضاءً، ويحتاج اليوم لجمع قضاياه النظرية وتطبيقاته العملية من كتب الفتاوى والنّوازل.

ونشير إلى أن هذا الإنتاج البحثي القيّم متوفر لدى دار الوعي الجزائرية، لكل من يرغب في الاستفادة منه، حيث يمكنه التواصل معها عبر موقعها الإلكتروني أو على حسابها الرسمي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو من خلال وكلائها الموزعين المعتمدين.

تاريخ Sep 28, 2020