الحراك الإخباري - الأمير عبد القادر
إعلان
إعلان

الأمير عبد القادر

منذ سنتين|روبرتاج

نتوقف اليوم في رحلتنا التاريخية مع أعلام الصوفية في الجزائر عند قطبها الروحي والجهادي، بطل المقاومة الأمير عبد القادر الجزائري، فهو في الأصل صوفي ثائر، كاتب وشاعر وفيلسوف وسياسي وفارس، اشتهر بمقاومته للاحتلال الفرنسي، ولد قرب مدينة معسكر بالغرب الجزائري يوم الثلاثاء 6 سبتمبر 1808 الموافق لـ 15 رجب 1223 هـ، رائد سياسي وعسكري مقاوم قاد مقاومة شعبية خمسة عشر عاما أثناء غزو فرنسا للجزائر هو أيضا مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة ورمز للمقاومة الجزائرية ضد الاستعمار والاضطهاد الفرنسي.

خاض معارك ضد الاحتلال الفرنسي للدفاع عن الوطن وبعدها نفي إلى دمشق وتوفي فيها يوم 26 مايو 1883.

  مولده و بــيــئــتـــــــــه و أسرته

هو الأمير عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى، وكان الابن الثالث لمحي الدين (سيدي محي الدين): شيخ الطريقة الصوفية القادرية ومؤلف "كتاب إرشاد المريدين" الموجه للمبتدئين، وأمه الزهرة بنت الشيخ سيدي بودومة، شيخ زاوية حمام بوحجر، وكانت سيدة مثقفة، ولد حوالي 6 ماي وقيل 6 سبتمبر 1808 بقرية القيطنة بولاية معسكر.

قطنت أسرة محي الدين في قرية على الضفة اليسرى لوادي الحمام على مسافة حوالي 20 كلم غربي مدينة معسكر، كانت الأسرة تعيش مما تدره عليها الأراضي الزراعية التي تملكها ومن العوائد التي يقدمها الأتباع والأنصار والتي تتكون من نقود ومواد أولية مثل: الصوف بسهل غريس والقمح.

وهي من سلالة الحسني القرشي سليل قبيلة لها سلطة روحية تتمتع بنفوذ واسع وقد جرت الأسرة على تقديم الضيافة لعابري السبيل والمساعدة للمعوزين، فاشتهرت بالكرم إلى جانب شهرتها بالعلم والتقوى في قبيلة بني هاشم وخارج حدود هذه القرية وكذلك كان سكان المنطقة يقصدون كبار الأسرة لفض نزاعاتهم وللتحكيم في خصوصياتهم، وقد كان محي الدين رئيس الأسرة متزوجا بأربع نساء وهن وريدة ولدت له " محمد السعيد ومصطفى " والزهراء التي أنجبت له " عبد القادر وخديجة " وفاطمة ولدت له " حسين "وخيرة أنجبت " المرتضى "
 طفولته وتعليمه
كان تعليمه الديني صوفياً سنياً، أجاد القراءة والكتابة وهو في سن الخامسة، كما نال الإجازة في تفسير القرآن والحديث النبوي وهو في الثانية عشرة من عمره ليحمل سنتين بعد ذلك لقب حافظ وبدأ بإلقاء الدروس في الجامع التابع لأسرته في مختلف المواد الفقهية.
شجعه والده على الفروسية وركوب الخيل ومقارعة الأنداد والمشاركة في المسابقات التي تقام آنذاك فأظهر تفوقا مدهشا.
بعثه والده إلى وهران لطلب العلم من علمائها، حضر دروس الشيخ أحمد بن الخوجة فازداد تعمقا في الفقه، كما طالع كتب الفلاسفة وتعلم الحساب والجغرافيا، على يد الشيخ أحمد بن الطاهر البطيوي قاضي أرزيو وقد دامت هذه الرحلة العملية ما يقرب من السنتين (1237-1239 هـ) (1821-1823 م).
بعد عودته إلى بلدة القيطنة وكان قد بلغ الخامسة عشر بادر والده إلى تزويجه واختار ابنة عمه لالة خيرة زوجة له، فهي تجمع بين محاسن الخلق والنسب الشريف.
 رحلته إلى الحج
لم يكن محيي الدين (والد الأمير عبد القادر) هملاً بين الناس، بل كان ممن لا يسكتون على الظلم، فكان من الطبيعي أن يصطدم مع الحاكم العثماني لمدينة "وهران"، وأدى هذا إلى تحديد إقامة الوالد في بيته، فاختار أن يخرج من الجزائر كلها في رحلة طويلة.
كان محي الدين بالإضافة لكونه شيخ الطريقة القادرية ذو مكانة رفيعة بين عامة الناس ومن كبار أعيانهم وقد دفعت آراؤه بالحاكم العثماني لوهران إلى تحديد إقامته ببيته وهو ما دفعه للتفكير بالخروج لأداء فريضة الحج والابتعاد عن هذا الجو المشحون.
أذن لمحي الدين بالخروج لفريضة الحج عام 1241 هـ/ 1825م، فخرج واصطحب ابنه عبد القادر معه وهو في سن الثامنة عشرة، فكانت رحلة عبد القادر إلى تونس ثم مصر ثم الحجاز ثم البلاد الشامية ثم بغداد، ثم العودة إلى الحجاز، ثم العودة إلى الجزائر مارًا بمصر وبرقة وطرابلس ثم تونس، وأخيرًا إلى الجزائر من جديد عام 1828 م، فكانت رحلة تعلم ومشاهدة ومعايشة للوطن العربي في هذه الفترة من تاريخه، وما لبث الوالد وابنه أن استقرا في قريتهم "قيطنة"، ولم يمض وقت طويل حتى تعرضت الجزائر لحملة عسكرية فرنسية شرسة، وتمكنت فرنسا من احتلال العاصمة فعلاً في 5 جويلية 1830م، واستسلم الحاكم العثماني الداي حسين، ولكن الشعب الجزائري كان له رأي آخر.
تلقى الشاب مجموعة أخرى من العلوم فقد درس الفلسفة (رسائل إخوان الصفا - أرسطوطاليس - فيثاغورس) ودرس الفقه والحديث فدرس صحيح البخاري وصحيح مسلم، وقام بتدريسهما، كما تلقى الألفية في النحو والسنوسية والعقائد النسفية في التوحيد، وايساغوجي في المنطق، والإتقان في علوم القرآن، وبهذا اكتمل للأمير العلم الشرعي، والعلم العقلي، والرحلة والمشاهدة.
مبايعة الأمير عبد القادر
فرّق الشقاق بين الزعماء كلمة الشعب، وبحث أهالي وعلماء غريس عن زعيم يأخذ اللواء ويبايعونه على الجهاد تحت قيادته، واستقر الرأي على "محيي الدين الحسني" وعرضوا عليه الأمر، ولكن الرجل اعتذر عن الإمارة وقبل قيادة الجهاد.

بعد أن تمت مبايعة محمد بن زعموم مع علي ولد سي سعدي في ضواحي متيجة، انتقلت المقاومة إلى الغرب الجزائري أين كان "محيي الدين الجزائري" قد رضي بمسؤولية القيادة العسكرية، فقد التفت حوله الجموع من جديد، وخاصة أنه حقق عدة انتصارات على العدو، وقد كان ابنه "عبد القادر الجزائري" على رأس الجيش في كثير من هذه الانتصارات، فاقترح "محي الدين" ابنه "عبد القادر" لهذا المنصب وجمع الناس لبيعته تحت شجرة الدردار فقبل الحاضرون من علماء وكبراء ووجهاء القوم، وقبل الشاب تحمل هذه المسؤولية، وتمت البيعة، ولقبه والده بـناصر الدين واقترحوا عليه أن يكون سلطانا ولكنه اختار لقب الأمير، وكان ذلك في 3 رجب 1248 هـ الموافق 27 نوفمبر 1832 م وهو ابن أربعة وعشرون سنة.

توجه الأمير بعد البيعة إلى معسكر ووقف خطيبا في مسجدها أمام الجموع الكبيرة فحث الناس على الانضباط والالتزام ودعاهم إلى الجهاد والعمل وبعد الانصراف أرسل الأمير الرسل والرسائل إلى بقية القبائل والأعيان الذين لم يحضروا البيعة لإبلاغهم بذلك، ودعوتهم إلى مبايعته أسوة بمن أدى واجب الطاعة.

لما ذاع خبر البيعة الأولى بادر أعيان ووجهاء ورؤساء القبائل التي لم تبايع إلى المبايعة فتمت في مسجد بمعسكر يسمى حاليا بـمسجد سيدي الحسان حيث حررت وثيقة أخرى للبيعة وقرئت على الشعب وتولى كتابتها محمود بن حوا المجاهدي أحد علماء المنطقة.

 تأسيس الدولة

عندما تولى عبد القادر الإمارة كانت الوضعية الاقتصادية والاجتماعية صعبة، لم يكن له المال الكافي لإقامة دعائم الدولة إضافة إلى وجود معارضين لإمارته، ولكنه لم يفقد الأمل إذ كان يدعو باستمرار إلى وحدة الصفوف وترك الخلافات الداخلية ونبذ الأغراض الشخصية...كان يعتبر منصبه تكليفا لا تشريفا. وفي نداء له بمسجد معسكر خطب قائلا:"إذا كنت قد رضيت بالإمارة، فإنما ليكون لي حق السير في الطليعة والسير بكم في المعارك في سبيل الله...الإمارة ليست هدفي فأنا مستعد لطاعة أيّ قائد آخر ترونه أجدر منّي وأقدر على قيادتكم شريطة أن يلتزم خدمة الدّين وتحرير الوطن"

إن وحدة الأمة جعلها الأمير هي الأساس لنهضة دولته واجتهد في تحقيق هذه الوحدة رغم عراقيل الاستعمار والصعوبات التي تلقاها من بعض رؤساء القبائل الذين لم يكن وعيهم السياسي في مستوى عظمة المهمة وكانت طريقة الأمير في تحقيق الوحدة هي الإقناع أولا والتذكير بمتطلبات الإيمان والجهاد، لقد كلفته حملات التوعية جهودًا كبيرة لأن أكثر القبائل كانت قد اعتادت حياة الاستقلال ولم تألف الخضوع لسلطة مركزية قوية. بفضل إيمانه القوي انضمت اليه قبائل كثيرة بدون أن يطلق رصاصة واحدة لإخضاعها بل كانت بلاغته وحجته كافيتين ليفهم الناس أهدافه في تحقيق الوحدة ومحاربة العدو، لكن عندما لا ينفع أسلوب التذكير والإقناع، يشهر سيفه ضدّ من يخرج عن صفوف المسلمين أو يساعد العدوّ لتفكيك المسلمين، وقد استصدر الأمير فتوى من العلماء تساعده في محاربة أعداء الدّين والوطن.

لقد قام الأمير بإصلاحات اجتماعية كثيرة، فقد حارب الفساد الخلقي بشدّة، ومنع الخمر والميسر منعًا باتا ومنع التدخين ليبعد المجتمع عن التبذير، كما منع استعمال الذهب والفضة للرّجال لأنّه كان يكره حياة البذخ والميوعة.

كان الأمير يرمي إلى هدفين: تكوين جيش منظم وتأسيس دولة موحّدة، وكان مساعدوه في هذه المهمة مخلصون..لقد بذل الأمير وأعوانه جهدًا كبيرا لاستتباب الأمن، فبفضل نظام الشرطة الذي أنشأه قُضِي على قُطّاع الطرق الذين كانوا يهجمون على المسافرين ويتعدّون على الحرمات، فأصبح الناس يتنقّلون في أمان وانعدمت السرقات.

قسّم الأمير التراب الوطني إلى 8 وحدات أو مقاطعات هي: مليانة، معسكر، تلمسان، الأغواط، المدية، برج بوعريريج، برج حمزة (البويرة)، بسكرة، سطيف).

كما أنشأ مصانع للأسلحة وبنى الحصون والقلاع (تاقدمت، معسكر، سعيدة).

ولقد شكل الأمير وزارته التي كانت تتكون من 5 وزارات وجعل مدينة معسكر مقرّا لها، واختار أفضل الرجال ممّن تميّزهم الكفاءة العلمية والمهارة السياسية إلى جانب فضائلهم الخُلُقِية، ونظّم ميزانية الدولة وفق مبدأ الزكاة لتغطية نفقات الجهاد، كما اختار رموز العلم الوطني وشعار للدولة(نصر من الله وفتح قريب).

وكان أحمد بن سالم خليفة على "مقاطعة الجبال" ضمن هذه المقاطعات الثمانية في دولة الأمير عبد القادر الجزائري.

 الأمير الأسير

ظل الأمير عبد القادر في سجون فرنسا يعاني من الإهانة والتضييق حتى عام 1852 م ثم استدعاه نابليون الثالث بعد توليه الحكم، وأكرم نزله، وأقام له المآدب الفاخرة ليقابل وزراء ووجهاء فرنسا، ويتناول الأمير كافة الشؤون السياسية والعسكرية والعلمية، مما أثار إعجاب الجميع بذكائه وخبرته، ودُعي الأمير لكي يتخذ من فرنسا وطنًا ثانيًا له، ولكنه رفض، ورحل إلى الشرق، أين توقف في إسطنبول حيث السلطان عبد المجيد، والتقى فيها بسفراء الدول الأجنبية، ثم استقر به المقام في دمشق منذ عام 1856 م وفيها أخذ مكانة بين الوجهاء والعلماء، وقام بالتدريس في المسجد الأموي كما قام بالتدريس قبل ذلك في المدرسة الأشرفية، وفي المدرسة الحقيقية.

وفي عام 1276 هـ/1860م تتحرك شرارة الفتنة بين الدروز والمسيحيين في منطقة الشام، ويكون للأمير دور فعال في حماية أكثر من 15 ألف من المسيحيين، إذ استضافهم في منازله.

وافاه الأجل بدمشق في منتصف ليلة 19 رجب 1300 هـ / 23 مايو 1883 عن عمر يناهز 76 عاما، وقد دفن بجوار الشيخ ابن عربي بالصالحية بدمشق لوصية تركها. وبعد استقلال الجزائر نقل جثمانه إلى الجزائر عام 1965 ودفن في مقبرة العالية في مربع الشهداء الذي لا يدفن فيه إلا الشخصيات الوطنية الكبيرة كالرؤساء.

مؤلفات الأمير عبد القادر

لم يكن الأمير عبد القادر قائدا عسكريا وحسب، ولكن له مؤلفات وأقوال كبيرة في الشعر تبرز إبداعه ورقة إحساسه ومكانته الأدبية والروحية. له أيضا كتاب "المواقف" وغيره. وقد ألف في بروسة (تركيا) أثناء إقامته بها رسالة "ذكرى العاقل وتنبيه الغافل" عبارة عن "رسالة إلى الفرنسيين"، وهو كتاب موجه لأعضاء المجمع الآسيوي بطلب من الجمعية، وذلك بعد أن منحه هذا المجمع العلمي الفرنسي قبل ذلك بقليل العضوية فيه. وكان تاريخ تأليف الرسالة في 14 رمضان 1271 / 1855 م، ثم ترجمها الفرنسي "غوستاف ديغا" إلى لغته في عام 1858 م وهو القنصل الفرنسي بدمشق آنذاك.

يحتوي الكتاب على ثلاثة أبواب (في فضل العلم والعلماء) وبه تعريف العقل وتكملة وتنبيه وخاتمة، و(في إثبات العلم الشرعي) يتحدث فيه عن إثبات النبوة واحتياج كافة العقلاء إلى علوم الأنبياء.. وفصل ثالث (في فضل الكتابة)..

"المقراض الحاد لقطع لسان منتقض دين الإسلام بالباطل والإلحاد"، وهو كتاب رائع للأمير عبد القادر الجزائري يبرز فلسفته في الحياة ونظرته في شتى المجلات والميادين.

ق.و

تاريخ Jun 19, 2021