بقلم: د. مهماه بوزيان
لقد انجرفت النخب لدينا، لعقود من الزمن، وراء بريق "نظريات" خادعة وسالبة للألباب وللوعي المجتمعي، تناصب العداء للموارد الطبيعية (لعنة الموارد، المرض الهولندي، ريع الموارد، ... وربطها مع الظاهرة التي يُصطلح عليها ب"الألماسات الدموية أو ألماس الدماء والأزمات والحروب"، ..)، لكن للأسف هذه الإتجاهات التي جرى استنباتها في فضاءات أجنبية وتدفقت إلينا من خارج المنظومات الوطنية، كانت قد أُلْبِسَتْ ثوب "النظرية" على الرغم من أنه مخدوش بعمق في سلامتها وصدقيتها وصحتها كنظريات علمية مؤسسة، بل هي ساندة ومسنودة لتجليات فكر الهيمنة المُستَجد الذي سعى لقولبة الاقتصاديات النامية والناشئة في مرحلة "مابعد الكولونيالية" وضمن أطر أدبياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية، بما يستهدف "تحييد الموارد" في معارك هندسة التنمية و"تعطيل استغلال الدول لمواردها الطبيعية الذاتية" ضمن نهج الإنفكاك عن المنظومات الخارجية، تحت ذريعة "نظرية" اللّعنات التي صُمّمت لقولبة الشعوب والتنمية وأدواتها وجعل الدول رهينة تنفيذ توصيات الهيئات الخارجية.
وكانت كلّ "انتفاضة فكر رصين" ضد أعمال "القولبة" هذه، يجري تحييدها سريعا، من خلال تسفيهها وهي في المهد وفي طور التشكل، ونعتها بالتفكير الشبيه بالخلجات الطفولية التي تخشى "الغولة" كونها تستحضر وتتعاطى "نظرية المؤامرة" على مواردها وخطط التنمية لديها ...
لكننا اليوم، وأمام شخصية الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، التي من أهم ما يميّزها هو جرأته على الإفصاح عن رغباته ورؤيته للأمور، حتى ولو بشكل فجّ، وبما يفضح ما يُفكر فيه الآخرون من ساسة الدول الغربية سرّا، وما يخططون له في أجنداتهم في الخفاء لكنّهم يدبّجونه بالدبلوماسية الناعمة، لكن "ترامب" يجاهر به ويتحدث عنه دون أي ستر أو تستر أو ستار دبلوماسي .. لذلك نجد تصريحاته ذات النزعة التوسعية والرغبة الجامحة في الاستيلاء والتمدد والهيمنة ليست جنونا بل هي نابعة من خطط يؤمن بها ويمتلك هو معطياتها .. وهي كاشفة، وموقظة لنا من غفلتنا .. للإنتباه إلى أهمية كنوز الموارد الطبيعية التي نحوزها، والتي هي بحاجة إلى تثوير وتثمين وتأمين .. فمعارك التنمية في المستقبل ستكون مدفوعة بـ"اشتهاء الموارد بشكل شره جدا".
سيتم إعادة ترتيب رقعة الشطرنج العالمية، فقد ذكر "مايك والتز"' المرشح لمنصب مستشار الأمن القومي للرئيس دونالد جون ترامب، بعض الأهداف المقبلة في عهد ترامب 2.0 : غرينلاند؛ كندا؛ الكارتلات المتنوعة والهيئات المنظمات الدولية؛ القطب الشمالي؛ خليج بنما الذي سيصبح خليج "أمريكا"؛ النفط والغاز؛ المعادن الأرضية النادرة، كلّ هذا بإسم تعزيز "الأمن القومي".
فعلى سبيل المثال .. لنأخذ "غرينلاند"
فهناك، في غرينلاند، تلك الأرض الغنية بالموراد الثمينة، تتواجد خمسة وعشرون (25) مادة من المواد الخام الأساسية الـ(34) التي حددتها المفوضية الأوروبية، في سنة 2023، ضمن مدوّنة "الموراد المعدنية الإستراتيجية" لأهميتها البالغة والإستراتيجية للصناعة الأوروبية التطويرية وللتحول الأخضر والإنتقال الطاقوي، والتي صارت موضع اهتمام الرئيس الأمريكي القادم دونالد ترامب لضمها بمواردها الثمينة إلى بلاده، في إطار صراعه الاستراتيجي مع الصين وتحييد روسيا.
وفي العام 2023، حدد تقرير صادر عن هيئة المسح الجيولوجي للدنمارك وجود 6 ملايين طن من الموارد الطبيعية المعروفة من الجرافيت في جزيرة غرينلاند، إضافة إلى 36,1 مليون طن من معادن الأتربة النادرة (REE) (بما يجعلها في المرتبة الثانية بعد الصين مباشرة وقريبة جدا من حجم احتياطياتها من الأتربة النادرة، على الرغم من أن غرينلاند تُصنف حاليا في المرتبة الثامنة في تقارير الهيئات الدولية)، مع امتلاكها 235 ألف طن من احتياطيات الليثيوم، و106 آلاف طن من النحاس، بالإضافة إلى المعادن كثيرة وفيرة، على غرار معادن مجموعة البلاتين، والموليبدينوم، والتنتالوم، والتيتانيوم. كما لديها احتياطيات من الغاز تزيد عن 4100 مليار متر مكعب، و17,5 مليار برميل من النفط الخام.
فـ"غرينلاند" تقع اليوم وسط لعبة دولية كبرى جديدة .. وكلّ الدول التي تحوز على مصادر هامة من الموراد المعدنية الإستراتيجية والأساسية والحرجة ستكون محط أنظار الدول الصناعية الكبرى .. بما يحتم علينا تأمين مواردنا الطبيعية وتثمينها.