الحراك الإخباري - وإن ضاقت الأرض، نُبحِر إلى غزة
إعلان
إعلان

وإن ضاقت الأرض، نُبحِر إلى غزة

منذ 20 ساعة|الأخبار


من باريس: سهيلة باتو

صحفية و سينمائية 

كان البارحة يومًا مكثّفًا، مفعمًا  بالمشاعر و الجهد. حمل الناشطون، أبطال اليوم، ثقلًا هائلًا، وتقدّموا رغم التعب واللايقين، بعزيمة لا تتزعزع. كنّا، نحن المتابعين، بين القلق والرجاء، نراقب شجاعتهم ونتوجّس من العقبات المقبلة.

إنه اندفاع جاء من كلّ بلد ودين، من دون سلاح أو حراسة، بوصلة واحدة تقودهم: الضمير. أطباء، معلمون، فنانون، ناشطون، أمّهات، أبناء، منفيّون سابقون، وجيل جديد يحمل الذاكرة كأنها جزء من الجسد. تركوا أوطانهم، عائلاتهم، ولغاتهم أحيانًا، ليمضوا نحو مكان لم يروه من قبل، لكنّه يسكن فيهم: غزّة.

لا توجد كلمات واسعة بما يكفي للتعبير عن الامتنان. إنه ليس شكرًا دبلوماسيًا، بل امتنان حار، ممتزج بالدموع، بالاحترام، وبأخوّة لا يولدها سوى الشجاعة.

ما فرّقته السياسة، جمعه الطريق. مغاربيّون من كلّ ضفة، جزائريون، تونسيون، مغاربة، ليبيون، موريتانيون، ساروا جنبًا إلى جنب، لا فضل لأحد على أحد. في سيارات التونسيين، كانت أناشيد الشيخ إمام تملأ الهواء. كلماته الصادقة، الحادة، أيقظت الوعي، وأحيت روحًا جماعية، نفسًا من الحرية يسري في الأجساد والأرواح. الجزائريون أنشدوا هتافًا صار نشيدًا شعبيًا: افتحوا لنا الحدود لنذهب إلى فلسطين. كان هذا النداء، المردّد آلاف المرّات، يُسمع على الأسفلت الساخن كصدى متمرّد. في محطات الاستراحة المليئة بالغبار، بين الأيادي الممتدة والنظرات المتبادلة، استيقظ شيء قديم، ذاكرة مشتركة وروابط كانت نائمة. شاب مغربي يغني بيتًا، يردّده شيخ جزائري، يصفّق تونسي على إيقاع القلب. لم تكن مسيرة سياسية، بل كانت موكب أرواح.

في ليبيا، مع كلّ قرية، كانت الأرض تفتح ذراعيها. عائلات بأكملها تطهو على جانب الطريق، خبز ساخن، كسكسي، شاي معطّر يُقدَّم بأكواب مغسولة بالمحبّة. محطات البنزين تزوّد السيارات بالوقود، أو تكتفي بابتسامة ونظرة دامعة. قال شيخ من مصراتة: ليست مسيرة، بل حجّ. كانت الأفعال تذكّر بالطريق إلى مكة، لكن هذه المرة، الوجهة هي غزّة. ومن مكبّرات الصوت، أو على شفاه النساء، كانت تتردّد أغاني جوليا بطرس: أنا عم بحبّك يا وطني.

في طرف الطريق، امرأة ليبية تمسك يد امرأة تونسية، ثم تتراجع خطوة وترفع يدها نحو السماء: يرجعكم ربي فرحانين. في هذه الإيماءة، في هذه البركة، تجسّد كلّ ما نسيه الخطاب السياسي: إيمان الشعب، جماله البسيط، وكرامته حين يعطي رغم الحاجة.

كان الأمس أيضًا يومًا صعبًا على المصريين، الذين يواجهون أزمة اقتصادية خانقة، وإحساسًا متراكمًا بالظلم. لسنوات، احتضنوا لاجئين فلسطينيين وغيرهم من المهجّرين العرب، من العراقيين والسوريين، واليوم السودانيين، لكنّ القرار الرسمي الأخير ترك جرحًا في صورتهم. مصر، التي ضيّق عليها الزمن والموقع، ما زالت تستحقّ خطابًا يرتقي إلى مكانتها، ويتلقّى هذا النداء الشعبيّ بكرامة تليق بها.

تساءلت نجاة علي، تعقيبًا على القافلة، كيف نأمن للسياح الإسرائيليين دخول مصر بدون فيزا ونرفض ونشكك في نوايا، ونشجب ونحذر من مواطنين عرب قرروا تنظيم مسيرة سلمية لإدانة الإبادة في غزة؟

وقالت مناضلة أخرى: "المشهد النبيل ده مستكترينه علينا للأسف".

رغم الصور المؤلمة لناشطين مقيّدين بالأصفاد، ورغم برودة الزي الرسمي المصطفّ على مدرج المطار، سنحاول أن لا نتوقّف عندها. لأنّ ما يهمّ الآن، هو صوت الشعوب.

علينا أن لا نستسلم لمزيد من الانقسام. لنحتفظ بالأجمل: بالأيادي الممتدة، بالصمت المتضامن، بالدعوات التي ارتفعت من كلّ قلب. لنحتفظ بصور الإيمان والإخاء. والأجمل لم يأتِ بعد.

ظهرت رِما حسن في ساحة الجمهورية بباريس، عائدة مع رفاقها من سفينة "مادلين" بعد توقيف قاسٍ. كان التعب ظاهرًا على وجهها، لكن عينيها ظلّتا تشعّان بالعزم ذاته. قالت إنّ المقاومة لا تتوقّف عند هذه المسيرة العالمية. وأعلنت: سنرسل ما يكفي من السفن. وفهم الجميع: الأرض لم تعد تكفي، فسنذهب عبر البحر. وإذا احتجنا إلى ألف قارب، سيكون هناك ألف. هذه ليست تهديدًا، بل وعدًا.

في هذا العالم الذي يقوده حكّام مضطربون، مستعدّون لإحراق الكوكب كي لا يسقط عرشهم، لم يبقَ لنا سلاح سوى التضامن. نحن نعيش حربًا عالمية ثالثة غير معلنة، تدمّر المدارس والمستشفيات، تحرق الغابات والقصائد، وتغتال الزرع والحالمين. لذلك، لا ينبغي لهذا الحلم، حلم الوحدة الإنسانية والمغاربية والعالمية، أن يبقى مجرّد حلم.

تاريخ Jun 13, 2025