د. محمد عبد الستار
5 نوفمبر 2025
أثار تصريح المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف جدلا كبيرا في الجزائر والمغرب وحتى على الصعيد العربي والدولي، عندما قال بتاريخ 19 أكتوبر 2025: "إن الولايات المتحدة تعمل على اتفاق سلام بين الجزائر والمغرب، وأن واشنطن تتوقع تأمين الاتفاق خلال الـ 60 يوما القادمة."
وقبله قال مستشار ترامب للشؤون الإفريقية مسعد بولس إنه التقى بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ووجده منفتحا على إعادة بناء جسور الثقة مع الشعب المغربي ومع الملك محمد السادس. وأضاف أنه "في النهاية فإن البلدين دولتان شقيقتان وجارتان تتقاسمان قيما ومصالح عديدة" وهكذا يتم تغليف السعي الأمريكي، بأنه "حب في الجزائر والمغرب"
وقد اختار ستيف ويتكوف برنامج "60 دقيقة" لقناة سي بي آس نيوز الأمريكية، وهو أكثر البرامج الإخبارية تأثيرًا والذي يُبث منذ عام 1968، ويشاهده أسبوعيًا ما يقرب من عشرة ملايين أمريكي.
النشوة الترامبية ومبدأ هنري كيسنجر
جاء هذا الإعلان في غمرة "النشوة الترامبية" بوقف الحرب على غزة منذ توقيع اتفاق سلام بشرم الشيخ المصرية يوم 13 أكتوبر 2025، وكذلك بعد نجاحه في حمل مجلس الأمن الدولي على اعتماد مشروع قرار أمريكي يدعو للتفاوض بين المغرب والبوليساريو لحل النزاع في الصحراء الغربية على أساس الحكم الذاتي المغربي.
ورغم أن القضيتين تبدوان منفصلتين، إلا أنهما مكملتين ومرتبطتين (لاسيما قضية الصحراء الغربية) بالسعي الأمريكي لتحقيق ما أسماه ستيف ويتكوف "السلام بين الجزائر والمغرب"، وذلك طبقا لمبدأ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر "عدم الفصل بين المشرق العربي والمغرب العربي" وجعل “المغرب العربي ملحقة للشرق الأوسط” في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما تجسد لاحقا في مفهوم " الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا".
وبعد تصويت مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي المعدل بشأن "الحكم الذاتي" للصحراء الغربية بتاريخ 31 أكتوبر 2025، أصبح طبيعيا أن تتطلع الأنظار إلى "مشروع ويتكوف"، وقد استهلك قرابة 30 يوما منذ الإعلان عنه، ولحد الآن لا نرى شيئا سيتحقق في ظرف 60 يوما، اللهم إلا إذا كانت هناك مفاوضات سرية جارية على قدم وسائق في إطار ما يعرف بدبلوماسية الصدمة، أي يتم التكتم عليها إلى حين الإعلان عن النتيجة.
المغرب العربي: من ستيوارت إيزنستات إلى ستيف ويتكوف
لمجموعة كبيرة من العوامل مثل النفط، ومعابر الطاقة، والقرب من إسرائيل، والعمق الحضاري، وإيران، ركزت السياسة الخارجية الأمريكية على المشرق العربي أكثر، لكنها منذ التسعينيات بدأ اهتمامها يتركز أيضا على منطقة المغرب العربي.
ولعل أكثر ما يوضح ذلك هو مبادرة نائب وزير الخارجية الأسبق للشؤون الاقتصادية، ووزير الزراعة لاحقا، والذي عمل مستشارا للرئيس جيمي كارتر بين 1977 و1981 "ستيوارت إيزنستات" عام 1998، والتي تسعى إلى جعل المغرب العربي سوقا واحدة تضم أكثر من 100 مليون نسمة لتصبح 200 مليون نسمة بإضافة مصر التي تحظى بصفة عضو مراقب في اتحاد المغرب العربي، وتكون السوق مفتوحة دون حدود أو قيود جمركية، وتقوم الولايات المتحدة بتكثيف استثماراتها في شمال إفريقيا وتوسيع المُـبادلات التجارية مع بلدانها. وفي النهاية يتم إدراج المنطقة المغاربية ككل في الاقتصاد الليبيرالي العالمي، وهو بكلمة أخرى إبعاد الجزائر عن المحور الروسي الصيني.
ولمجموعة من الأسباب أيضا تعطل مشروع "ستيوارت إيزنستات"، ليعود من جديد عام 2009 في عهد الرئيس باراك أوباما، حيث كلفت إدارته فريقا رفيع المستوى، بدراسة كيفية التعامل مع المغرب العربي وجعله "منطقة اهتمام استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية"، مثل الشرق الأوسط تماما طبقا لمبدأ "هنري كيسنجر".
وليس من بين أهم المشرفين على الدراسة سوى "ستيوارت إيزنستات"، ووليام زارتمان رئيس المعهد الأمريكي للدراسات المغاربية، ومادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة بين 1997 و2001 في عهد كلينتون، وكان الجنرال ويسلي كلارك، قائد قوات الأطلسي الأسبق بين 1997 و2001، في عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، مشرفا فخريا.
تضمنت الدراسة ستة محاور، منها ما يخص الصحراء الغربية، حيث تم التصور أن “الحُـكم الذاتي" هو الخيار المرشح للحياة والقابل للتطبيق، وهو ما عمل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على تجسيده منذ عام 2020 خلال نهاية عهدته الرئاسية الأولى، باعترافه بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية، ليطرح مشروع قرار الحكم الذاتي على مجلس الأمن الدولي شهر أكتوبر 2025 خلال عهدته الثانية.
ولمجموعة من الأسباب أيضا لم تفلح إدارة أوباما في تجسيد مبادرة "ستيوارت إيزنستات"، لتظهر من جديد على لسان "ستيف ويتكوف" يوم 19 أكتوبر 2025.
ستيف ويتكوف: مغرب عربي تحت الهيمنة الأطلسية؟
مباشرة بعد تصريح ستيف ويتكوف على قناة سي بي سي نيوز، أعد معهد "آفاق جيوسياسية بطنجة" دراسة نشرها شهر أكتوبر 2025 قبل تصويت مجلس الأمن على القرار الخاص بالحكم الذاتي في الصحراء الغربيةInstitut Géopolitique Horizons (IGH)، حملت عنوان "السلام الأمريكي" بين المغرب والجزائر: مصالحة أم لعبة خداع؟ تحليل استراتيجي للأجندة الأطلسية الجديدة في المغرب العربي في ضوء ما يُسمى بالوساطة الأمريكية "ويتكوف".
عبرت الدراسة عن المخاوف المغربية من الوساطة، وخلصت إلى أن "وراء هذا الوعد المذهل تكمن آلية دبلوماسية أكثر تعقيدًا بكثير، إنها إعادة تشكيل المغرب العربي تحت الهيمنة الأطلسية" قوامها "ترسيخ السيادة المغربية على الصحراء الغربية" و"إعادة تموضع الجزائر كرأس حربة عسكري أمريكي جديد في منطقة الساحل والصحراء."
و أوضحت الدراسة أن "الوساطة" الأمريكية بين المغرب والجزائر لم تبدأ في أكتوبر 2025، بل هي سلسلة دبلوماسية بدأت في عهد إدارة بايدن، وانبثقت مبادرة ويتكوف من عمل جوشوا هاريس، المستشار المقرب من الرئيس بايدن، الذي بدأ اتصالات جس نبض بين الرباط والجزائر بين عامي 2023 و2024، لاكتشاف الخطوط الحمراء لكل طرف ومناطق تنازلات الطرفين.
و مع وصول إدارة ترامب إلى السلطة في يناير 2025، كلف مسعد بولس المستشار الخاص للشؤون الإفريقية والشرق الأوسط بالملف، فقام برحلات عديدة بين الجزائر والرباط خلال النصف الأول من عام 2025.
ركائز و11 مطلبا: سعي أمريكي لتغيير جوهر الدولة الجزائرية
الملفت، هو أنه لم ينشر أي شيء عن فحوى الأفكار التي سوف تعرض للنقاش خلال الوساطة، لكن معهد آفاق جيوسياسية التي أشرت إليه، نشر مقتطفات وفقا لمصادره الدبلوماسية الحصرية (والمرجح أن تكون وزارة الخارجية المغربية)، ويكشف أن الوساطة تقوم على خمسة ركائز رئيسية هي:
1-اعتراف الجزائر بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية.
2-انضمام الجزائر إلى المبادرة الأطلسية، بمعنى اندماجها في بنيتها الأمنية الإقليمية، مما يُمثل نهاية مبدأ عدم الانحياز، والابتعاد عن روسيا والصين.
3-ترسيم الحدود بشكل نهائي بين الجزائر والمغرب بوضع حد للأطماع المغربية في المناطق الغربية للجزائر.
٤. التطبيع مع إسرائيل.
٥. الاستغلال المشترك لمنجم غار جبيلات.
وتلحق بهذه المبادئ الخمسة، 11 مطلبا، تهدف إلى تغيير جوهر الدولة الجزائرية بشكل جذري، كما قالت ذات الدراسة، منها:
1-تخلي الجزائر عن خطابها المعادي للغرب.
2-التخلي عن مبدأ عدم الانحياز.
3-الابتعاد عن روسيا.
٤-وقف البرامج العسكرية الضخمة.
٥-فتح الاقتصاد أمام الاستثمار الأمريكي.
٦-تطبيع العلاقات مع الدول المجاورة.
٧. تعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب مع الجانب الأمريكي.
٨. إعادة تفعيل اتحاد المغرب العربي.
٩. نزع سلاح جبهة البوليساريو
١٠. حل مخيمات تندوف التي تؤوي، (حسب الدراسة)، ما بين ٩٠ ألفًا و١٦٥ ألف شخص.
١١. توزيع السكان الصحراويين بين المغرب وقبائل موريتانية محددة.
واستنتجت الدراسة أن الوساطة الأمريكية تسعى إلى فرض تحوّل منهجي للدولة الجزائرية لمواءمتها مع المصالح الاستراتيجية الأطلسية.
حسابات الولايات المتحدة
الوضع الأمريكي الراهن، يكشف عن احتدام الصراع العسكري من حيث نوعية الأسلحة بين واشنطن وموسكو، ومخاوف من زعزعة الصين لمكانة أمريكا اقتصاديا وتكنولوجيا، وتقليص الصين وروسيا لمناطق النفوذ الأمريكي عبر العالم. لذلك لا يمكن عزل أي سياسة أمريكية في العالم عن هذه الهواجس. وفيما يخص الوساطة المقترحة فإن الحسابات الأمريكية لا تهتم بتاتا بمستقبل الجزائر ولا المغرب ولا المغرب العربي، بل تهتم فقط بما يخدم مصالحها، ولعل أهمها ما يلي:
1 – وضع قدم في المنطقة على مقربة من منطقة الساحل حيث النفوذ العسكري الروسي والاقتصادي الصيني.
2 – السعي للسيطرة على المعادن النادرة التي تزخر بها منطقة الساحل.
3 – السعي للحصول على قاعدة عسكرية في "تامنراست" لتعويضها انسحابها من النيجر عام ٢٠٢٣ بعد إخلاء القاعدة الجوية ٢٠١ في أغاديز، التي كانت تضم أكثر من ألف جندي أمريكي وكانت بمثابة المركز الرئيسي للطائرات المسيرة التابعة للقيادة العسكرية الأمريكية في غرب إفريقيا. وهذه الوساطة، هي التي ستضفي الشرعية على الوجود العسكري الأمريكي في الجزائر.
ويبدو أن الولايات المتحدة تفضل تامنراست لبناء قاعدة عسكرية رغم أن المغرب يعتبر ركيزة لأمريكا شمال إفريقيا، فالمغرب شارك في الحروب الأمريكية في المنطقة (ليبيا، العراق، غزة) ومنح صفة "حليف أساسي للولايات المتحدة الأمريكية خارج الحلف الأطلسي" سنة 2003، ويستضيف سنويا أكبر مناورة عسكرية أمريكية في إفريقيا "الأسد الإفريقي".
ويرجع التفضيل الأمريكي للجزائر، لكونها دولة ساحلية بخلاف المغرب، وتتمتع بالعمق الاستراتيجي في الصحراء، ولديها بنية تحتية عسكرية متطورة.
4 – حصار كل من روسيا والصين، والعمل مع حلفائها إسرائيل من جهة، وتركيا العضو في حلف الناتو من جهة أخرى.
وساطة ويتكوف بين المبادئ والحناجر
إن أي مشروع يعرض للتفاوض أو الحوار، يكون مصيره القبول ولو بعد التعديل، الرفض ولو بالتعديل، التأجيل لإثرائه وانتظار الفرص لبعثه من جديد. وهذا ينطبق على مبادرة ويتكوف.
غير أن ما سبق عرضه، لاسيما إذا صح مضمون الوساطة، سواء أكان فعلا مقترح أمريكي أو أفكار مغربية، فإن النتيجة ستكون الرفض، وربما تأجيله للإثراء حفاظا على مشاعر ترامب.
ذلك أن الجزائر، كما أكد على ذلك كل رؤسائها من بن بلة إلى تبون، هي دولة مبادئ، أما الوساطة التي تحملها على التخلي على مبادئها فهذه لن تكون. كما أن الوساطة، إذا كانت تحمل أفكارا تستدعي تغيير جوهر الدولة الجزائرية وعلاقاتها الدبلوماسية التاريخية، ستواجه بدون أدنى شك بالرفض المطلق. أما قضية منح قاعدة عسكرية للولايات المتحدة بتامنراست، فهذا يبدو ضربا من خيال هوليود السينمائي.
ويضاف إلى ذلك مدة 60 يومنا للتوصل لاتفاق سلام، وهذا غير ممكن بالنظر لكثرة وتعقد المشاكل بين الجزائر والمغرب، وقد استهلكنا لحد الآن قرابة 50 بالمئة من المهلة.
وحتى المغرب، ينظر بحذر للوساطة الأمريكية، رغم أنه حليف لأمريكا، لأن لديه سوابق مع الولايات المتحدة، أسمتها دراسة معهد آفاق للجيوسياسية، "الخناجر الأمريكية الأربعة"، جعلت المغرب يعتبر التحالف مع الولايات المتحدة لا يضمن حماية النظام الحاكم، لأن أمريكا تُعطي واشنطن الأولوية لمصالحها الاستراتيجية، حيث يمكن للولايات المتحدة، لأسباب تتعلق بالواقعية السياسية، أن تضحي بمصالح حليف مخلص لصالح منافس إقليمي إذا كان ذلك يخدم أهدافها الاستراتيجية الحالية. وتتمثل الخناجر الأربعة في ما يلي:
1-عدم التزام أمريكا بالوعد الذي قطعه روزفولت عام 1943 بدعم استقلال المغرب.
٢. صمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية خلال محاولة انقلاب 16 أغسطس ١٩٧٢ على الحسن الثاني، والتي جاءت عقب محاولة سابقة يوم ١٠ يوليو ١٩٧١ بعد الهجوم على القصر الملكي في الصخيرات خلال حفل استقبال.
٣-حظر أمريكا بيع الأسلحة للمغرب بين (١٩٧٥-١٩٨٤) في عز الحرب مع البوليساريو.
٤-سعي أمريكا لأدراج قضية حقوق الإنسان ضمن مهام بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية عام ٢٠١٢، في عهد إدارة أوباما، واعتبرته المغرب تحديًا لسيادتها ودعمًا غير مباشر للموقف الجزائري.
5 – تضمنت الدراسة "خنجرا خامسا" حسب الرؤية المغربية، يتعلق بسعي أمريكا منذ 2012 للحصول على قاعدة عسكرية في تامنراست، ورغم رفض الجزائر لذلك، فإن المغرب أصبح لا يثق في أمريكا، ويعتقد أنها تسعى لإضعافه وتقوية الجزائر، فأقدم في أبريل 2013، على إلغاء مناورات "الأسد الأفريقي"، ولم تتحسن العلاقات إلا مع وصول ترامب إلى السلطة عام ٢٠١٧، واعترافه بالسيادة المغربية على الصحراء في ديسمبر ٢٠٢٠.
في المحصلة، وبالنظر لما سبق عرضه وشرحه، فإن مصير وساطة ويتكوف ستكون استعراضا إعلاميا على غرار توقيع اتفاق السلام في الشرق الأوسط بشرم الشيخ والذي لم يلجم إسرائيل عن وقف الحرب التي أكد ترامب أنها انتهت، حيث مازال ناتنياهو يحارب إلى يومنا هذا

