الحراك الإخباري - الجيوسياسية الجزائرية: بين التموقع الاقليمي، الطموحات القارية
إعلان
إعلان

الجيوسياسية الجزائرية: بين التموقع الاقليمي، الطموحات القارية

منذ 8 ساعات|الأخبار

بقلم الدكتور توفيق هامل 

مختص في التاريخ العسكري


تحتل الجزائر موقعًا جغرافيًا فريدًا يربط بين البحر األبيض المتوسط وإفريقيا، وبين العالم العربي وإفريقيا جنوب الصحراء. وتُعدّوإعادة التموضع االستراتيجي

الثقل الجيوسياسي في المنطقة، بفضل مساحتها الشاسعة، ومواردها الطاقوية الضخمة، وإرثها التاريخي المستند من أبرز الدول ذات

إلى مقاومة االستعمار ومبدأ عدم االنحياز. وتُبنى سياستها الخارجية على مرتكزات السيادة واالستقرار واالنفتاح الحذر على العالم.

وفي ظل عالم متعدد األقطاب سريع التحوّل، تسعى الجزائر إلى تعزيز مكانتها اإلقليمية، وترسيخ طموحاتها القارية، مع إعادة ضبط

عالقاتها االستراتيجية بما يخدم مصالحها الحيوية. تقف الجزائر اليوم عند مفترق طرق جيوسياسي. فهي تعمل على ترسيخ مكانتها

كقوة إقليمية مستقرة، ذات طموحات قارية، ورؤية استراتيجية عالمية متوازنة. وقد يكون مستقبل الجزائر واعدًا، بشرط تعزيز

قدراتها الداخلية، تنويع اقتصادها، واالنفتاح العقالني على شركاء متعددين

 :يهدف المقال إلى اإلجابة على اإلشكالية التالية

كيف تتمكن الجزائر، في ظل التحوالت الجيوسياسية العالمية، من إعادة توجيه سياستها الخارجية وتموقعها االستراتيجي لتعزيز "

"دورها اإلقليمي في إفريقيا، مع التكيف في عالم متعدد األقطاب ومتزايد التنافسية؟

تطرح هذه المشكلة عدة تساؤالت أساسية: ما هي األدوات الجيوسياسية واالقتصادية التي تستخدمها الجزائر لتثبيت مكانتها كفاعل

كيف تدير الجزائر عالقاتها مع القوى الكبرى )روسيا، الصين، الواليات المتحدة، االتحاد مؤثر في إفريقيا وعلى الساحة الدولية؟

ما هي تداعيات التحوالت االستراتيجية الجزائرية في سياق دولي يتسم بصعود القوى الصاعدة وإعادة تشكيل الكتل

الجيوسياسية؟

أوالا : التموقع اإلقليمي – المتوسط، المغرب العربي، والساحل

 1 - فاعل متوسطي حذر 

"، 5+5 تُعد الجزائر من القوى الفاعلة في منطقة البحر األبيض المتوسط، لكنها تنتهج سياسة حذرة ومتحفظة. فهي عضو في "حوار

وتشارك في النقاشات المتعلقة بقضايا الهجرة، اإلرهاب، والجريمة المنظمة، لكنها ترفض أي شكل من أشكال التدخل العسكري

.الاجنبي ، وتتحفظ على المبادرات األمنية ذات الطابع األطلسي )الناتو(

العلاقات مع االتحاد األوروبي محكومة بعدة ملفات، أبرزها الطاقة، حيث تُعد الجزائر من أهم موردي الغاز الطبيعي لاوروبا. إلى أن، الجزائر تسعى إلى إعادة التوازن في هذه العلاقة، خاصة في إطار اتفاق الشراكة مع االتحاد األوروبي لسنة 2005 الذي يعتبره احيانا غير منصف لمصالحها الاقتصادية

2 - المغرب العربي: الجمود السياسي والمنافسة الجيوسياسية 

تعاني فكرة الوحدة المغاربية من جمود مزمن، يرجع باألساس إلى الخالف العميق بين الجزائر والمغرب، السيما بشأن ملف

الصحراء الغربية. تدعم الجزائر جبهة البوليساريو وتدافع عن مبدأ تقرير المصير، في حين يتمسك المغرب باعتبار الصحراء جزءًا من أراضيه

، مما أدى إلى قطع العالقات الدبلوماسية بين البلدين سنة 2020 تعمّق هذا الخالف بعد تطبيع العالقات المغربية الاسرائيلية سنة 2021

. . الموقف الجزائري في هذا الشأن يستند إلى مبادئ القانون الدولي، ويعكس تصورًا أمنيًا واستراتيجيًا إقليميًا طويل الامد 2021

3 - منطقة الساحل: عمق استراتيجي ومصدر تهديد 

تشكل منطقة الساحل عمقًا استراتيجيًا حيويًا للجزائر، لكنها في الوقت ذاته تمثل مصدر تهديدات متعددة. انتشار الجماعات اإلرهابية،

انهيار بعض الدول، وتفاقم التهريب العابر للحدود، كلها عوامل دفعت الجزائر إلى اعتماد سياسة أمنية حازمة قائمة على تعزيز

.المراقبة الحدودية والتعاون الثنائي، ال سيما مع النيجر ومالي

التدخل العسكري المباشر خارج حدودها، وتدعو إلى حلول إفريقية لألزمات، كما هو الحال في اتفاق غير أن الجزائر ترفض مبدئيًا

. الخاص بالوضع في مالي 

ثانيا: الجزائر وإفريقيا – طموح قاري متجدد

1 - العودة إلى إفريقيا جنوب الصحراء 

في السنوات األخيرة، شهدت الجزائر تحركًا دبلوماسيًا مكثفًا نحو إفريقيا جنوب الصحراء، حيث كثّفت انخراطها في القارة

اإلفريقية، سعيًا منها لتعزيز نفوذها وتوسيع مجال حركتها الدبلوماسية، وهو ما يعكس رغبتها في تعزيز نفوذها في القارة. يشكّل هذا

التوجه امتدادًا طبيعيًا للسياسة الجزائرية التي تؤمن بأهمية التضامن اإلفريقي في مواجهة التحديات المشتركة مثل الارهاب، التغيرات

المناخية، والتحديات االقتصادية. الجزائر تعمل على تعزيز عالقاتها مع الدول اإلفريقية عبر تطوير التعاون االقتصادي والتجاري،

وهو ما يعكس إرادتها في أن تكون جزءًا أساسيًا من المشاريع االقتصادية القارية مثل االتحاد اإلفريقي ومنطقة التجارة الحرة

القارية اإلفريقية

وتسعى الجزائر إلى تعزيز دورها في المسائل األمنية عبر تقديم الدعم للدول اإلفريقية في مواجهة الجماعات اإلرهابية وتهديدات

الجريمة المنظمة. في هذا السياق، تبرز الجزائر كمساهم رئيسي في إنشاء اآللية اإلفريقية لالستجابة السريعة لألزمات، والتي تهدف

إلى تقديم حلول فاعلة لألزمات األمنية في القارة. فإفريقيا تمثل امتدادًا طبيعيًا وعمقًا استراتيجيًا للجزائر. تسعى الجزائر إلى لعب

دور محوري داخل االتحاد اإلفريقي والدفاع عن قضايا مثل دعم الجمهورية الصحراوية ومكافحة الارهاب

2 - الدبلوماسية والتعاون االقتصادي 

اعتمدت الجزائر دبلوماسية نشطة، تمثلت في فتح سفارات جديدة، وتنظيم لقاءات ثنائية ومتعددة األطراف، وزيادة عدد الرحالات

الجوية نحو الدول اإلفريقية. كما تعمل على دعم مشاريع البنية التحتية القارية مثل الطريق العابر للصحراء )الجزائر – الغوس(،

وربط شبكات الكهرباء، وتوسيع استثمارات شركاتها العمومية )سوناطراك، سونلغاز، كوسيدار...( في القارة

تسعى الجزائر إلى توسيع دائرة تأثيرها في إفريقيا عبر تعزيز التعاون االقتصادي مع دول القارة. وهي تسعى لتنويع مصادر

استثماراتها من خالل تعزيز مشاريع البنية التحتية المشتركة، مثل مشاريع الطاقة المتجددة، وبناء الطرق البرية، وشبكات السكك

الحديدية التي تربط شمال إفريقيا بالجنوب اإلفريقي. الجزائر بصفتها قوة اقتصادية نفطية وغازية تسعى إلى تفعيل شراكات استثمارية مع الشركات اإلفريقية لتعزيز التعاون في القطاعات األساسية مثل الطاقة، الزراعة، والبنية التحتية

كما تعمل الجزائر على إنشاء تكتالت اقتصادية مع دول الجوار والدول اإلفريقية األخرى، بما يساهم في زيادة التعاون في مجالات التجارة والاستثمار. شركة سوناطراك الجزائرية، كمثال، تعتبر واحدة من أكبر الشركات النفطية في القارة، وتسعى إلى توسيع عملياتها في إفريقيا جنوب الصحراء، األمر الذي يعكس التوجه الجزائري نحو زيادة حجم المبادالات القتصادية مع دول القارة

3 - الجزائر والمنظمات اإلفريقية 

تلعب الجزائر دورًا مهمًا في مؤسسات االتحاد اإلفريقي، خاصة في قضايا السلم واألمن. وتحتضن مقر المركز اإلفريقي للدراسات

، وتسعى إلى تقديم نفسها كفاعل رئيسي في مواجهة التهديدات األمنية العابرة للحدود (CAERT) والبحوث حول الارهاب

تسعى الجزائر إلى تعزيز مكانتها في المنظمات اإلفريقية الكبرى مثل االتحاد اإلفريقي ومجموعة الـ77، وتلعب دورًا محوريًا في

قيادة القضايا اإلفريقية على الساحة الدولية. الجزائر تساهم بشكل كبير في تعزيز التعاون بين الدول اإلفريقية في مجاالت الامن ومجموعة تنمية الجنوب (ECOWAS) والسلم، كما أنها تُعدّأحد الفاعلين الرئيسيين في المجموعة االقتصادية لدول غرب إفريقيا

.(SADC) اإلفريقي

فيما يتعلق باألمن اإلقليمي، تلعب الجزائر دورًا رياديًا في مكافحة اإلرهاب والجريمة المنظمة في منطقة الساحل اإلفريقي، حيث

تعزز من التعاون العسكري واألمني مع دول الجوار مثل مالي، النيجر، وتشاد . وهي تواصل العمل على نشر ثقافة الحوار والتفاهم

في إطار االتحاد اإلفريقي بهدف الوصول إلى حلول سياسية وسلمية لألزمات في القارة

ثالثا : إعادة التموضع االستراتيجي في عالم متعدد األقطاب

ظلت الجزائر منذ مؤتمر باندونغ سنة 1955 وفيّة لمبدأ عدم االنحياز، لكنها اليوم تتجه نحو تبنّي تعددية نشطة، من خالل تنويع شراكاتها اإلستراتيجية. فهي تسعى إلى إقامة توازن في عالقاتها مع القوى الكبرى: الصين، روسيا، الواليات المتحدة، والاتحاد

األوروبي، دون االرتهان ألي محور

1 - من عدم االنحياز إلى التعددية النشطة 

تعتبر الجزائر من أبرز الدول التي تبنّت سياسة عدم االنحياز منذ استقاللها، حيث كانت عضوًا مؤسسًا في حركة عدم االنحياز التي سعت إلى تحقيق االستقالل السياسي واالقتصادي للدول النامية في مواجهة الهيمنة الثنائية بين الكتل الكبرى في الحرب الباردة. إلى  أن الجزائر اليوم تجد نفسها أمام عالم متعدد األقطاب، حيث تسعى إلى إعادة تموضع استراتيجي يضمن لها الحفاظ على استقاللها

الوطني وتحقيق مصالحها االقتصادية والسياسية

في هذا اإلطار، تتبنى الجزائر التعددية النشطة كاستراتيجية جديدة. بمعنى آخر، الجزائر تسعى إلى بناء عالقات متعددة األبعاد مع القوى الكبرى العالمية مثل الصين وروسيا والواليات المتحدة األمريكية واالتحاد األوروبي، دون االنحياز إلى أي طرف على حساب الاخر. يُعتبر هذا التحول في السياسة الخارجية الجزائرية ردًّا على التغيرات الجيوسياسية العالمية، ويُظهر الجزائر كداعم الا ستقرار الدولي ومؤمن بالتوازن بين القوى الكبرى

هذا التوجه التعددي النشط يعكس في جوهره رغبة الجزائر في أن تكون جزءًا من الحلول العالمية الكبرى، سواء في مجال الامن الدولي، أو في ملف التغير المناخي، أو في النظام المالي الدولي

2 - الشراكة مع روسيا والصين 

روسيا: الشريك العسكري التقليدي

تُعد روسيا شريكًا عسكريًا تقليديًا، حيث تحتل الجزائر مرتبة متقدمة بين زبائن الصناعات الدفاعية الروسية. ويتعزز هذا التعاون في ظل التحديات الامنية الراهنة في المنطقة

تُعدّروسيا من أهم شركاء الجزائر العسكريين. فقد ظلت روسيا تُقدّم للجزائر دعمًا قويًا في مجال الصناعات الدفاعية، حيث تعتبر الجزائر واحدة من أكبر المستوردين لألسلحة الروسية في المنطقة. هذا التعاون االستراتيجي ال يقتصر على المجال العسكري فقط،

.بل يمتد إلى التعاون في الطاقة والفضاء

وفي ظل التطورات الجيوسياسية، خاصة بعد الحرب في أوكرانيا، تعمل الجزائر على تعزيز هذا التعاون مع روسيا، ويُنظر إلى هذا

.التحالف على أنه رد فعل ضد الهيمنة الغربية في المنطقة

الصين: الشريك االقتصادي المتنامي

أما الصين، فهي تعتبر الجزائر جزءًا أساسيًا في مبادرة الحزام والطريق. هذه المبادرة التي تهدف إلى ربط قارات آسيا وأوروبا وأفريقيا من خالل بنية تحتية ضخمة تشمل السكك الحديدية، والموانئ، والطرق البرية. الجزائر تتمتع بعالقات اقتصادية متنامية مع الصين في العديد من المجاالت، مثل الطاقة، البنية التحتية، والتكنولوجيا

الجزائر تعتبر هذه الشراكة االقتصادية مع الصين استراتيجية طويلة األمد، من خالل استثماراتها المشتركة التي تهدف إلى تعزيز

النمو المستدام. الصين هي أحد أكبر الشركاء التجاريين للجزائر، وبلدان مثل سوناطراك تتعاون بشكل متزايد مع الشركات الصينية

في مشاريع الطاقة الكبيرة

3 - "نحو االنضمام إلى مجموعة "بريكس 

تسعى الجزائر لالنضمام إلى مجموعة بريكس، بهدف كسر الهيمنة الغربية على النظام المالي الدولي، واالنخراط في نظام عالمي

أكثر عدالة. وترى في هذه الخطوة وسيلة لتثبيت موقعها كقوة صاعدة وفاعل وسطي بين الشمال والجنوب

في إطار سعي الجزائر لزيادة نفوذها في النظام العالمي المتعدد األقطاب، قامت الجزائر بإعالن رغبتها في االنضمام إلى مجموعة

بريكس التي تضم البرازيل، روسيا ، الهند، الصين وجنوب إفريقيا . الجزائر تعتبر أن االنضمام إلى هذه المجموعة سيمكنها من

مواجهة الهيمنة الغربية على النظام المالي الدولي

تسعى الجزائر إلى االستفادة من الشراكات االقتصادية مع دول بريكس وتوسيع عالقاتها في مجاالت مثل الطاقة، التكنولوجيا،

والتبادل التجاري . كما ترى الجزائر في هذه المجموعة وسيلة إلعطاء صوت أكبر للجنوب العالمي في مسألة إعادة هيكلة النظام الدولي

بريكس تُعتبر منصة تعزز التعددية في العالقات الدولية، والجزائر تسعى لالستفادة منها لتعزيز مكانتها الجيوسياسية واالقتصادية

خاتمة

تعيش الجزائر اليوم مرحلة حاسمة في مسارها الجيوسياسي، حيث تسعى إلى تعزيز مكانتها اإلقليمية ودورها القاري في ظل التحديات الدولية المتزايدة. تُعدّالجزائر من القوى المؤثرة في منطقة البحر األبيض المتوسط ومنطقة الساحل، وتسعى إلى لعب دور محوري في إفريقيا، من خالل مبادرات دبلوماسية واستثمارات استراتيجية تعكس الطموحات القارية والتوجهات المستقبلية للبلاد

على الرغم من التحديات التي تواجهها، سواء على المستوى الداخلي أو اإلقليمي، تظل الجزائر تحتفظ بمكانة متميزة في السياسة

الدولية، حيث يمكنها أن تواصل بناء شراكات استراتيجية متوازنة مع القوى المختلفة، بما يعزز من استقرارها وأمنها الوطنيين،

ويحقق مصالحها في النظام العالمي المتغير. إن مستقبل الجزائر يعتمد إلى حد كبير على قدرتها على االستمرار في تطوير قدراتها

االقتصادية، األمنية، والدبلوماسية بما يتماشى مع متطلبات عالم متسارع التغيرات

تواصل الجزائر رسم مالمح دورها كقوة جيوسياسية محورية، وتبني على إرثها التاريخي في السعي لتحقيق السيادة والعدالة في

عالقاتها الدولية، مع الحفاظ على التزامها بمبادئ االستقاللية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى. وبين اإلخالص

للمبادئ )السيادة، التضامن، عدم التدخل( واالنخراط في التحديات العالمية الجديدة، تواصل الجزائر رسم مالمح دورها كقوة محورية

في عالم متغير. لقد أثبتت الجزائر قدرة كبيرة على التأقلم مع المتغيرات الجيوسياسية، فهي تسعى إلى إعادة تموضع استراتيجي من

خالل توازن عالقاتها مع القوى الكبرى مثل الصين وروسيا واالتحاد األوروبي، وتبني سياسة تعددية نشطة تحافظ على استقالاية القرار الوطني

تاريخ May 15, 2025