الحراك الإخباري - شيخ بن باديس والعقبي والإبراهيمي...هذا هو حمدان الونيسي!
إعلان
إعلان

شيخ بن باديس والعقبي والإبراهيمي...هذا هو حمدان الونيسي!

منذ 3 سنوات|روبرتاج

لا تزال رحلتنا الشيقة متواصلة مع أعلام الجزائر عبر التاريخ الحديث، حيث تستوقفنا في هذه الحلقة شخصية حمدان الونيسي القسنطيني، رحمه الله.

ولا ترجع أهمية الشيخ حمدان الونيسي (أو ابن الونيسي) إلى كونه أستاذ عبد الحميد بن باديس فقط، ولكن إلى كونه أستاذا الشيخين العقبي والإبراهيمي أيضا. وله أهمية خاصة لكونه واصل وظيفة التدريس المسجدي المتعارف عليه بذكاء وحنكة رغم كونه موظفا رسميا ورغم القيود الإدارية الصارمة. وقد انتهى الأمر بطرده من الجامع الكبير سنة 1915 لأسباب ما تزال مجهولة. فاختار بعدها الرحلة إلى الحجاز والإقامة هناك إلى وفاته.

ولد حمدان عام 1856، وهو ابن أحمد الونيسي الذي لا نعرف عنه شيئا الآن، ولكنه كان معاصرا لاحتلال قسنطينة والأحداث التي أعقبت ذلك. ولا شك أنه روى لابنه حمدان ما شاهد وعاش فامتلأت نفس الطفل بالسخط على الفرنسيين. ولا ندري على من درس الفتى حمدان بعد حفظ القرآن في الجامع. هل تردد على الدروس الباقية التي كان يلقيها الشيوخ المكي البوطالبي ومحمد الشاذلي وأحمد المبارك، أو تردد على دروس المدرسة الشرعية - الفرنسية التي كانت بإدارة الشيخ محمد الشاذلي، وكانت دروسها عندئذ عربية - إسلامية، أو ذهب إلى بعض الزوايا المجاورة؟ ذلك كله لا نعلمه من سيرته التي بين أيدينا. ولكن بعض المصادر تذكر أنه حضر مستمعا فقط، (أي غير رسمي) لدروس الشيخ عبد القادر المجاوي. ولعل ذلك كان أثناء تدريس الشيخ المجاوي في المساجد وليس في المدرسة الرسمية.

وفي سنة 1880 (أو 1881) عين حمدان الونيسي مدرسا بالجامع الكبير بقسنطينة ولا يكاد عمره عندئذ يتجاوز الخامسة والعشرين. فما الذي جعل السلطات الفرنسية ترشح هذا الشاب إلى هذا المنصب التقليدي المخصص عادة لفحول العلماء وكبار الشيوخ؟ لقد كان في قسنطينة عندئذ أسماء باقية من عائلة ابن باديس والفكون وباش تارزي وابن جلول الخ. ولكننا نعرف أن السلطات الفرنسية كانت تميل إلى إدخال العناصر الجديدة على القديمة، برفع المنخفضين أحيانا وتقريب المبعدين أحيانا أخرى ونقل علماء الغرب إلى الشرق تارة ثالثة، وهكذا. ولكن حمدان الونيسي لم يكن فيما يبدو من المنخفضين ولا من المبعدين ولا من الغرباء، ولذلك يظل السؤال حول تعيينه في تلك السن المبكرة لهذه الوظيفة الهامة في مدينة عريقة في تقاليدها قائما.

حمدان من الأعيان

ومهما كان الأمر فقد ملأ الشاب حمدان مكانه في الجامع الكبير وسرعان ما أصبح من الأعيان المشار إليهم بالبنان. ففي عريضة أعيان قسنطينة التي تضمنت مظالم أهل البلاد ضد السلطات الفرنسية وجدنا اسمه بين الموقعين سنة 1891. فهو حينئذ بين كبار الملاكين والنواب والمفتين والقضاة الرسميين. وقد تبنى مطالب أساسية حول الأرض والقضاء الإسلامي والتعليم العربي والضرائب والسياسة الأهلية ما يمكن أن تحاسبه عليه السلطات الفرنسية لجرأته، مع غيره. وكان ذلك في فترة حرجة من تاريخ الجزائر، وكانت بداية دروسه في عهد مظلم نسميه عهد لويس تيرمان (1882 - 1891). ومن الممكن القول إذن أن الشاب حمدان قد تعلم الكثير من السياسة الاستعمارية منذ 1881 (تاريخ تعيينه) ونشر ذلك في تعليمه للناس بالمسجد بطريقته الخاصة، كما شارك في الحياة السياسية العامة التي كانت تتحرك ببطء من حوله.

يصفه خبراء الاستعمار، وهم هؤلاء المستشرقون الذين كانوا يفتشون دروسه منذ سنة 1905، بأوصاف تدل على أنه لم يكن مدرسا عاديا. يأكل الخبز ويمشي بين الناس، كما كان أغلب الموظفين والمدرسين عندئذ. قال عنه موتيلانسكي مدير مدرسة قسنطينة في أول تقرير عنه، أنه مكسب لمدينة قسنطينة وأنه أهل للدروس العليا وليس الابتدائية. ووصفه شارل سان كالبر، الذي خلف موتيلانسكي في إدارة المدرسة المذكورة، أنه واضح الدرس رفيع المستوى، وأن تلاميذه أغلبهم من القرى المجاورة، وفيهم من جاء من عنابة وليس منهم من يرغب في الترشح للمدرسة الرسمية، وجميعهم يجهلون الفرنسية تقريبا.

وفي تقرير لاحق وصفه نفس المفتش (سنة 1908) بأنه (رجل ذكي جدا، وله روح رقيقة) وأن درسه مفيد جدا، وله طريقة حية يستعمل فيها الأسئلة، وله صوت نافذ ولغة سهلة. وقد قضى إلى ذلك الحين 28 سنة في التدريس. وأوصى له بوسام أكاديمية باعتباره قضى عمرا طويلا في المهنة وباعتباره (من بين المدرسين أكثر ذكاء وإخلاصا للتعليم الإسلامي). ومن كل ذلك نفهم أن لهذا الشيخ رسالة كان يبثها في تلاميذه وفي الناس الذين يحضرون دروسه الفقهية وغيرها. وهي الرسالة التي تلقاها عنه وفهمها بعضهم أمثال عبد الحميد بن باديس ولم يفهمها، ربما، أمثال الشيخ محمود كحول (ابن دالي) الذي كان أيضا من تلاميذه.

عاصر حمدان الونيسي عددا من الشيوخ والعلماء في قسنطينة وغيرها. عاصر المجاوي الذي تنقل من الجامع إلى المدرسة الكتانية، ثم إلى المدرسة الثعالبية في العاصمة، وقد بلغ من الشهرة والنفوذ العلمي مكانة مرموقة. وعاصر محمود بن الشاذلي، وعاصر المولود بن الموهوب.

نشاط حمدان التعليمي

ولا نعرف أنه كتب في الصحف الجزائرية أو التونسية، ولا حاضر في نادي صالح باي أو غيره. ويبدو أن الرجل كان ملتزما بمهنة التعليم المسجدي مخلصا لها كل الإخلاص، وكان حريصا على تخريج التلاميذ والتأثير في الناس بالكلمة والفكرة أكثر من التأثير فيهم بالتأليف والمقالة.

وتشمل الدروس الإجبارية (الموجهة للتلاميذ المترشحين للمدارس الرسمية الثلاث) اللغة العربية بالرجوع إلى الألفية ولامية الأفعال وغيرها، والحساب بالرجوع إلى الأخضري والقلصادي. ثم الدروس الاختيارية (وهي الموجهة للعامة)، وتتضمن الفقه على مختصر خليل والتوحيد على السنوسية - أم البراهين. ومعدل الدروس ساعتان في اليوم، مدة ستة أيام.

حضر له المفتش موتيلانسكي درسا في النحو في ربيع 1905. فأخبر أن تلاميذه كانوا 17 فردا، من بينهم الشيخ محمود كحول الذي كان عمره عندئذ 33 سنة. وكان كحول مدرسا في مدرسة سيدي الجليس، وهي مدرسة فرنسية - عربية. ولا نجد اسم عبد الحميد بن باديس من تلاميذ حمدان هذه السنة. ويقول المفتش أن التلاميذ قد فهموا الدرس لوضوحه، وأن للشيخ تجربة طويلة وقدرة تجعله مؤهلا للدروس العليا وليس الابتدائية، ولذلك أوصى المفتش بأن تبقى للشيخ حمدان الدروس العليا في الجامع الكبير، أما الدروس المبسطة فيقوم بها المدرس المعين لجامع سيدي الكتاني. ومما جاء في تقرير المفتش أيضا أن وجود الشيخ حمدان في قسنطينة يعد مكسبا لهذه المدينة.

وكان تقرير شارل سان كالبر سنة 1907 أكثر دقة وشمولا. وبعد أن ذكر عدد دروس الشيخ الأسبوعية وعناوينها، سواء منها الإجبارية أو الاختيارية، ذكر أن تلاميذ الشيخ تتراوح أعمارهم بين 18 و 32 وأن أصغرهم (18 سنة) هو عبد الحميد بن باديس، وهو أحد إثنين من عائلات قسنطينة، أما الباقون فكانوا من القرى المجاورة وحتى من عنابة.

وفي السنة الموالية (1908) كان عدد تلاميذ الشيخ حمدان 32، من بينهم عبد الحميد بن باديس أيضا. وأخبر المفتش سان كالبر أن سن ابن باديس 25 سنة. ومن بين هؤلاء التلاميذ أحد عشر من مدينة قسنطينة نفسها والباقي من خارجها.

أما استعمال السبورة وإدخال الطريقة الجديدة في التعليم فقد لاحظ المفتش أن الشيوخ المدرسين على العموم لا يريدون إدخال أية طريقة جديدة على دروسهم. ولكنه متفائل بالنسبة للشيخ حمدان لذكائه القوي وروحه الرقيقة، وأكد المفتش أن الشيخ حمدان لن يتردد بعد اليوم في استعمال السبورة رغم أن تلاميذه قد تعودوا على أخذ إملاءات من دروسه. وكرر القول بأنه يستعمل المساءلة وأن درسه مفيد جدا، وله صوت واضح ولغة سهلة ودقيقة. ولذلك أوصى له بوسام الأكاديمية (التعليم) بمناسبة افتتاح المدرسة في المكان الجديد (12)، لأن الشيخ حمدان يعتبر من بين المدرسين الأكثر ذكاء وإخلاصا للتعليم الإسلامي.

لكن جاء في تقرير صادر عام 1915 عن نفس المفتش أن الشيخ حمدان بن أحمد الونيسي قد طرد Révoqué من وظيفته كمدرس، وعوض بالشيخ عبد المجيد بن عبد الله بوجمعة، مدرس اللغة العربية والأدب بالمدرسة الشرعية الرسمية، وقد تولى بوجمعة وظيفته الجديدة في شهر مارس 1915، دون ذكر السبب في عزل الشيخ حمدان وطرده.

هجرة حمدان إلى الحرمين

المتواتر بين المعاصرين أن الشيخ حمدان قد هاجر إلى الحرمين سنة 1915. والخروج من الجزائر عندئذ يحتاج إلى رخصة رسمية. فهل طلب الشيخ حمدان رخصة الحج أو رخصة أخرى فمنحت له دون تردد؟ إن حركة الهجرة نحو المشرق عندئذ كانت شائعة، وقد عرفت سطيف وقسنطينة وسيدي عقبة وغيرها حركة نشيطة نحو الشام والحجاز. ونعرف أنه خلال هذه الأثناء هاجرت أسرة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أيضا من نواحي سطيف. ثم جاءت الهجرة الجماعية من تلمسان 1911. فهل تدخل هجرة الشيخ حمدان ضمن هذه الحركة الاحتجاجية على التجنيد الإجباري؟.

استقر الشيخ حمدان في المدينة المنورة. ولا ندري البلدان التي مر بها والعلماء الذين تعرف عليهم أو تعرفوا عليه. وبعد أدائه للشعائر الدينية انتصب للتدريس هناك. وقد وجدنا في أحد البحوث التي قام بها أستاذ من السعودية حول التعليم في الحجاز في هذا القرن، إسم الشيخ حمدان ضمن المدرسين. وفي ظننا أنه لو كان الشيخ حمدان منتميا إلى بعض الطرق ذات الصلة بالسلطات الفرنسية لما كان مصيره الطرد من الجامع الذي قضى فيه ثلاثين سنة من عمره، بل الطرد من بلاده بطريقة غير مباشرة. ولكنه فضل الشرف على المذلة، وجوار الرسول (صلى الله عليه وسلم) على جوار الاستعمار.

وكان في الحجاز مهاجرون جزائريون جدد وقدماء، ولا سيما في المدينة المنورة، التي كانت عندئذ بدون ضرع ولا زرع، ولا نفط ولا مياه محلاة. فاجتمع الشمل بأسرة العقبى وأسرة الإبراهيمي وبعض الأسر المغاربية، ثم التحق بهم عبد الحميد بن باديس حاجا، وكانت نفسه تحدثه أيضا بالهجرة. وكان القدر يخطط لكل قدره، فالشيخ الذي ذهب مراغما في الأرض نصح تلميذه بالرجوع إلى وطنه وتعمير المكان الذي شغر برحيله. وكان الشيخ حمدان يعرف مكانة أسرة ابن باديس في قسنطينة، ويعرف حدود حركة المتوظف لدى السلطات الفرنسية، فنصح تلميذه ابن باديس أيضا بأن يعمل حرا وأن لا يرتبط بوظيف إداري، مهما كان. وبعد عدة شهور استجاب التلميذ لنصيحة شيخه وشد الرحال عائدا إلى وطنه. وبعد عدة سنوات في التعليم (بطيبة الطيبة) توفي الشيخ حمدان راضيا مرضيا (1920)، فقد سمع عن البذور التي كان يبذرها تلميذه في الجزائر، ولم يبق إلا انتظار الحصاد.

بتصرف عن شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله، رحمه الله.

تاريخ Apr 20, 2021