الحراك الإخباري - كتاب جزائري سبق أفكار الطهطاوي في التنوير: السعي المحمود في نظام الجنود
إعلان
إعلان

كتاب جزائري سبق أفكار الطهطاوي في التنوير: السعي المحمود في نظام الجنود

منذ 3 سنوات|قراءة في كتاب

صدر عام 2018 في طبعته الأولى كتاب " السعي المحمود في نظام الجنود" عن دار الوعي الجزائرية المهتمة بالتراث العلمي والتاريخي والأدبي للجزائر والمنطقة المغاربية عمومًا، وهو جهد مميز من تقديم وضبط وتحقيق العلامة المرحوم الدكتور محمد بن عبد الكريم الجزائري.

أما صاحب هذا الكتاب الشهير فهو محمد بن محمود بن محمد بن حسين، ولد سنة 1189 / 1775 م بعنابة، وتوفي في 31/12/ 1851 ميلادية بمصر، وقد ترك العديد من المراسلات في العديد من المواضيع خاصة الدينية منها، وأشعارا، وكتبا، منها "السعي المحمود في نظام الجنود"، وبذلك فهو شخصية وطنية جزائرية عاشت عصراً حافلاً بالاضطراب السياسي وعمراً حافلاً بالإنتاج العلمي.

عُرف المؤلف بابن العنابي أو بالعنابي، ينحدر من أسرة علمية ودينية معروفة، إذ شغل جده الأكبر شيخ الإسلام (حسين بن محمد) الإفتاء الحنفي، وهو منصب مهم جدا في تلك الآونة، إذ كان يعد من المناصب في السلم الإداري. كما كان جده الأدنى (محمد بن حسين) عالما حظي بالتقدير الكبير من علماء عصره.

وقال المؤرخ الجزائري الدكتور مولود عويمر* إنّ الشيخ ابن العنابي قد وضع أفكاره الإصلاحية والتجديدية في كتابه "السعي المحمود في نظام الجنود"، وقد كان الفضل للدكتور محمد بن عبد الكريم الجزائري في تحقيقه ونشره، كما كان للدكتور أبي القاسم سعد الله، فضل السبق في الكتابة عن ابن العنابي وأفكاره التجديدية، رحمة الله على الجميع.

  يتضمن كتاب " السعي المحمود في نظام الجنود" بابيْن، الأول خصصه المؤلف للأمور الحربية، والثاني للأمور السياسية، غير أنه خصص 16 فصلا للموضوع الأول، بينما جمع كل ما تعلق بالموضوع الثاني في فصل واحد .

  وخصص المؤلف خاتمة الكتاب لذكر أسباب النصر والقوة، أما منهجه في هذا الكتاب، بحسب عويمر، فهو يقدم رأيا في مسألة سياسية أو عسكرية ثم يدعم ذلك الرأي بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأبيات الشعرية والمشاهد التاريخية. ولابد من الإشارة هنا إلى اعتماد ابن العنابي كثيرا على كتاب "سراج الملوك" للفقيه والعالم الأندلسي أبي الوليد الطرطوشي.

  والجدير بالملاحظة هنا هو أن الشيخ العنابي لم يشر في هذا الكتاب إلى من كتب قبله في موضوع السياسية والحرب مثل "المقدمة" لابن خلدون و"طبائع الملك" لابن الأزرق و "الأحكام السلطانية" للماوردي، وهي كلها كتب قيمة في علم السياسة وفقه العمران، وفق قول عويمر.

  ماذا يقصد ابن العنابي بالأمور الحربية؟، وهنا يجيب الباحث عويمر في مقالة نشرها سابقا، إنها تمثل في نظره "كل ما أنتج قوة محسوسة أو معقولة على الأعداء وإرهابهم وإغاظة نفوسهم وأتباعهم"، ففي مجال الإصلاح العسكري، دعا الشيخ العنابي إلى بناء جيش عصري قادر على مواكبة التحديات الجديدة التي تعصف بالعالم العربي والإسلامي.

  وكان لا يرى في الاقتباس من النظم العسكرية الأوروبية في التسليح والتجهيز الحديث والنظام والصرامة عيبا ومخالفة لروح الإسلام. بل الحاجة تقتضي من المسلمين الاستفادة من التطور الحاصل في أوروبا في هذا المجال لتحقيق المقصد وهو حفظ الأنفس والدين بالوسائل الحديثة مستمسكين بروح الآية الكريمة: ” وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة.

  كما شدد ابن العنابي على مواصفات القيادة لأنها هي التي تحدد استراتيجية الدفاع ووسائل الحرب ومساراتها لذلك يجب أن تتوفر فيها الكفاءة، وتتمتع بالخبرة الحربية والمروءة والشجاعة والحزم لتكون قدوة للجنود ومفتاحا للنصر.

  وقد قال في هذا الشأن: "فلا يولي إمارة الجند إلا أعلمهم بالحرب وتدبيره، وأجمعهم لخصال الكمال، إن وجد، وإلا فلا يعدل عن أعلمهم بالحرب، وأشدهم رأيا، وأثبتهم قلبا، بشهادة تجربته وامتحانه، لا بمجرد حسن الظن".

  وشدد على أواصر الاحترام والطاعة من جانب الجندي، والرفق والاستشارة من جانب القائد. فالتناغم بين الطرفين هو مصدر القوة والنصر.

  ويضيف عويمر أن ابن العنابي دافع عن السياسة الشرعية ورأى أنه من الواجب الاهتمام بها، وانتقد من نادى إلى الإعراض عنها، وهو موقف يدل على سوء فهم لمعنى السياسة التي حرص المؤلف منذ مدخل الفصل الثاني على التعريف بها لرفع أي لبس. فالسياسة في نظره هي: "حسن التدبير وجودة الرأي" وهي أيضا : "القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأحوال".

  وفي مجال الإصلاح السياسي دعا ابن العنابي إلى إرساء الحكم الراشد الذي لا يقوم –في رأيه- إلا على ثلاثة مبادئ: فالمبدأ الأول هي الليونة ويقصد بها المرونة وعدم التشدد في الموقف، والتسامح والتعامل مع الآخر بالإحسان.

أما الأساس الثاني فيتمثل في الشورى ومعناها الإنصات إلى الآراء المختلفة وعدم الاستبداد بالرأي والانفراد بالحكم والقرار.

وأخيرا شدد ابن العنابي على الكفاءة، وهي إسناد الأمر إلى من تتوفر فيه المعرفة والخبرة والتجربة والقدرة، وليس إلى من يجري وراءها، ويبيح كل محظور من أجل الوصول إليها وإن كان هو غير مؤهل لها؛ فقد كتب في كل هذه المعاني: " إن مبنى السياسة الشرعية ثلاثة أمور: اللين وترك الفظاظة، والمشاورة، وأن لا يستعمل على الأعمال والولايات راغب فيها أو مطالب لها"، واعتبر "الاستبداد بالرأي وترك المشاورة" من " أقبح ما يوصف به الرجال –ملوكا كانوا أو سوقة".

  والملفت للنظر في هذا الباب، والكلام لعويمر، هو الفصل السادس عشر الذي تحدث فيه عن جواز تعلم العلوم الآلية التي لها منفعة في أمر الدين من الكفار.

  وهكذا، سبق الشيخ ابن العنابي المصلح المصري رفاعة رافع الطهطاوي في الدعوة إلى الأخذ بأسباب التطور أو ما نسميه اليوم بالنهضة العلمية وإن كان مصدرها العالم الغربي. لقد نادى هذا العالم الجزائري بهذه الأفكار الجديدة في سنة 1826 وهي السنة التي سافر فيها الشيخ الطهطاوي إلى فرنسا مرافقا للبعثة العلمية المصرية، ولم يظهر مشروعه التجديدي إلا في الثلاثينات من القرن التاسع عشر.

  لقد كانت الفكرة السائدة في عصره هي أن الاقتداء بالغرب في تطوره والاقتباس من العلوم الحديثة هو تشبه بالكفار وخروج عن الملة الإسلامية، في حين اعتبر الشيخ ابن العنابي أن العلم ملك للإنسانية، تتداول الأمم على إثرائه وإرساء قواعده وبناء نظرياته والاستفادة من تطبيقاته لتحقيق سعادة الإنسان في الحياة.

  وفي هذا المضمار، ضربت الحضارة الإسلامية مثلا نموذجيا في الأخذ من علوم الأقدمين، والعطاء العلمي للقادمين، فلم يمنع المسلمون أنفسهم من الاستفادة من المعارف السابقة، ولم يحرموا غيرهم من تراثهم وإبداعاتهم واكتشافاتهم التي لا يستطيع أحد أن ينكرها في محالات متعددة.

  ولا شك أن الحضارة المعاصرة بزعامة الغرب ما هي إلا امتداد للحضارات المتعاقبة وتراكم لتجاربها وإسهاماتها وعطاءاتها، ومن أهمها الحضارة الإسلامية.

  لقد قدم الشيخ ابن العنابي فصولا في الإصلاح السياسي والعسكري لإنقاذ العالم العربي والإسلامي من سباته العميق، والاستجابة للتحديات المختلفة التي تواجهه من كل جهة، غير أن آراءه التجديدية لم تلق آذانا صاغية وعقولا صافية وعزائم قوية وقادة واعية.

  وهكذا صارت البلدان العربية التي لا تهتم بالأفكار الحية فريسة صائغة للاستعمار والاستعباد، وبقيت غارقة في التخلف في مجالاته المختلفة.

وبذلك فإن هذا الكتاب في غاية الأهمية لكل المتهمين بحقله من طلبة وباحثين ومثقفين، وهو متوفر لدى دار الوعي ضمن مجموعة الأعمال الكاملة للعلامة محمد بن عبد الكريم الجزائري رحمه الله.

* ما ورد من عرض لفحوى ومنهجية الكتاب كان نقلا عن مقالة للدكتور مولود عويمر بعنوان: "النخبة الإصلاحية الجزائرية وسؤال التنوير في القرن 19 وبدايات القرن 20" نشرها على موقع البصائر.

تاريخ Jun 19, 2020