الحراك الإخباري - صراع الإرهاب والعسكر والذهب والنفوذ الأجنبي في مالي
إعلان
إعلانات الصفقات العمومية - ANEP
إعلان

صراع الإرهاب والعسكر والذهب والنفوذ الأجنبي في مالي

منذ 3 ساعات|رأي من الحراك

د. محمد عبد الستار

13 نوفمبر 2025


بعيدا عن حصار باماكو من طرف جماعة "النصرة"، فإنه يمكن القول إن ما يجري اليوم في مالي بصفة خاصة ومنطقة الساحل بصفة عامة، هي مزيج قاتل بين الإرهاب والحكم العسكري ومناجم الذهب والليثيوم والنفوذ الدولي. ومن الصعب الفصل بين هذه وتلك، فالإرهاب أصبح من أدوات تنفيذ أطماع الدول الكبرى، والموارد المعدنية التي تمتلكها منطقة الساحل تعتبر ميدان حرب نفوذ دولية طاحنة، والحكم العسكري جعل معظم دول المنطقة "دولا فاشلة" وهو المفهوم الذي تختفي وراءه الدول الكبرى للتدخل العسكري بذريعة حماية "مصالحها وأمنها القومي"، وفي ظل هذا "المزيج البلقاني" تتنافس الدول الكبرى على تصدير الأسلحة للمنطقة، لذلك تجد دولة مالي اليوم نفسها أمام عدة سيناريوهات، على غرار "الأفغنة والسرينة" وحتى "الأكرنة".

الوقود سلاح الحرب الجديد

منذ شهر سبتمبر 2025 دخلت مالي الواقعة تحت حكم عسكري منذ عام 2020 مرحلة غير مسبوقة في مواجهة الجماعات المسلحة، حيث فرضت جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" حصارا خانقا على العاصمة باماكو، منعت بموجبه دخول الوقود إلى مالي لاسيما العاصمة باماكو بقطع طرق الإمداد من السينغال وكوت ديفوار وموريتانيا.

وهي المرة الأولى في تاريخ الصراع بين الأزواد والحكومة أو بين الجماعات المسلحة وباماكو التي يستخدم فيها الاقتصاد بصفة عامة والوقود بصفة خاصة سلاحا في الحرب.

وبموجب هذا التكتيك الجديد، أصبحت حكومة الجنرال أسيمي غايتا، شبه مشلولة، عن مواجهة التحديات، وتم إغلاق المدارس والجامعات للاقتصاد في الوقود، ووجهت النداءات للاقتصاد في الطاقة والتقليل من التنقل، وتشهد المصانع والمؤسسات الخدماتية وضعا غير مسبوق بسبب تأثر قطاع الكهرباء، ونتيجة لذلك ارتفعت الأسعار بنحو 200 بالمئة، وارتفع سعر البنزين إلى 15 يورو للتر الواحد حسب مراسلين صحفيين.

واستعانت الحكومة بروسيا لإدخال شحنات من الوقود لبماكو عبر كوت ديفوار، لكن ذلك لم يغير في الواقع شيئا، حيث اعتبرته تقارير إعلامية مجرد "مسكن مؤقت" أمام حرب استنزاف صعبة تنتهجها "نصرة الإسلام والمسلمين" التي تقوم على تكتيك الحواجز المتحركة، وحرق شاحنات الوقود والنهب وتغيير المكان بشكل سريع.

ولم تتدخل لحد الآن أي دولة لمحاولة فك الحصار على العاصمة باماكو، ما يدل بوضوح على العزلة التي تعيشها مالي. حتى دول "تحالف الساحل" (بوركينافاسو والنيجر) ليستا في وضع أحسن من مالي.

أصل الأزمة الراهنة وجذورها في مالي

يعود أصل الأزمة الراهنة في مالي إلى قرار الحكومة مطلع سبتمبر 2025، يمنع بيع الوقود في عبوات صغيرة، لقطع التزوّد عن "الجماعات المسلحة"، إلا أن ذلك القرار انقلب على الحكومة، عندما قررت جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" فرض حصار شامل على دخول الوقود إلى البلاد، فتمكنت من شل مفاصل الدولة، الأمر الذي ينذر بانعكاسات خطيرة على دولة مالي وعلى منطقة الساحل.

غير أن الأصل الرئيسي للأزمة الحالية، يرجع أساسا إلى الانقلابين العسكريين الذين قادهما الجنرال أسيمي غويتا عامي 2020 و2021، فدخلت مالي مرحلة انتقالية مرتبكة وعزلة دولية وإقليمية كبيرة، حيث تم تجميد عضويتها في الاتحاد الإفريقي، وفرضت المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (الإيكواس) عليها عدة عقوبات، مما جعل مالي تعلن انسحابها من المجموعة، ثم دخلت مالي مرحلة القطيعة مع فرنسا بعد طردها من مالي وهي التي كانت تخوض عمليات عسكرية ضد الجماعات المسلحة التي طالبت بانفصال منطقة أزواد منذ 2011(عمليات سيرفال ثم باراخان) ووصل التدهور في العلاقات الخارجية إلى الجزائر التي تربطها بدولة مالي علاقات تاريخية متميزة، فهي التي ظلت تلعب دور الوساطة بين التوارق والحكومة منذ استقلال مالي في الستينيات.

وبعد أن مدد المجلس العسكري المرحلة الانتقالية لسنوات وقام بتعديل الدستور، أعلن شهر مايو 2025 عن حل جميع الأحزاب السياسية، وهو ما تم اعتباره تكريسا للحكم الفردي الدكتاتوري.

ورغم التعاون مع روسيا وتركيا عسكريا بقيت مالي تعاني من تدهور أمني متواصل، خاصة في الشمال والوسط، حيث تنشط جماعات مسلحة مرتبطة بالقاعدة وداعش.

وأمام فشل الحكومة في مواجهة جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" وفك "حصار الوقود" عن باماكو، ستتحول حكومة الجنرال أسيمي غويتا إلى "دولة فاشلة"، ويستخدم هذا المفهوم من قبل الدول الغربية للتدخل بهدف حماية مصالحها وأمنها القومي.

وتسعى واشنطن بدون شك إلى استغلال الوضع الحالي للحصول على قاعدة عسكرية في مالي تحت غطاء التعاون لتعويض القاعدة العسكرية التي خسرتها في النيجر. وهو ما يضع النظام العسكري الحاكم في باماكو أمام حرجين: حرج أمام موسكو إذا سمحت لواشنطن بذلك، وحرج أمام واشنطن إذا لم تستجب لطلبها.

حرب معقدة: الإرهاب والعسكر والذهب والنفوذ الأجنبي

تتداخل في الصراع الدائر في مالي ومنطقة الساحل ككل عدة أسباب، بغض النظر عن أساليب الحرب المستخدمة، ومنها توفر المنطقة على المعادن النفيسة التي تثير لعاب الدول والعصابات.

ومنذ 2011 أشار المحللون إلى أن العامل الاقتصادي يعتبر عاملا حساما للتدخل الدولي في مالي، وعبروا عن مخاوفهم من تحول مالي إلى "ماليستان" على وزن أفغانستان. (أنظر مثلا، د. محمد لعقاب، الحصاد المدمر للربيع العربي، الطبعة الأولى 2018، دار هومية)

وفي عام 2023 أصدرت دولة مالي قانونا جديدا للتعدين، وتوقعت أن يدرّ على ميزانية الدولة دخلا سنويا لا يقل عن879.6 مليون دولار. ويسمح للدولة بامتلاك ما يصل إلى 30 بالمئة من أي منجم يعمل في مالي.

وفي يونيو 2023 قام رئيس المرحلة الانتقالية في مالي الجنرال آسيمي غويتا بزيارة رسمية إلى موسكو التقى خلالها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتم يوم 23 يونيو 2023 توقيع اتفاقيات تعاون استراتيجي لاستكشاف سبل استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية. الأمر الذي ينظر إليه الغرب بعين الريبة.

وبتاريخ 1 يونيو 2025 وضعت مالي حجر الأساس لمشروع مصفاة الذهب له القدرة على معالجة 200 طن سنويا، بالشراكة مع روسيا طبقا لاتفاقيات التعاون الموقعة عام 2023 بموسكو. وتحويل مالي إلى مركز إقليمي للذهب.

وتعدّ منطقة غرب إفريقيا من أبرز الأماكن المنتجة للذهب في العالم، لكنّها تفتقر إلى مصفاة حديثة، لذلك يجري تهريب الذهب من منطقة غربي أفريقيا إلى العديد من بلدان العالم. ووفقا لتقارير إعلامية فإن منطقة الساحل تشهد سنويا تهريب مئات الأطنان من الذهب، وخسرت دولة غانا في 5 سنوات 11 مليار دولار بسبب عمليات الذهب الحرفي الذي ينتشر على نطاق واسع في الدولة.

كما دشنت مالي بتاريخ 3 نوفمبر 2025 ثاني أكبر منجم لليثيوم في البلاد بمنطقة بوغوني، بعد أقل من عام على تدشين أول منجم في نغلامينا، ويجري استغلاله بشراكة مالية صينية بريطانية. ومع دمج إنتاج المنجمين سيصل إنتاج مالي إلى 590 ألف طن بحلول 2026، لتصبح بذلك أكبر منتج لليثيوم في أفريقيا.

وهكذا إذن يتضح أن المعادن النفيسة تشكل أحد أهم عوامل الصراع الدولي في مالي بصفة خاصة ومنطقة الساحل الإفريقي بصفة عامة، لذلك نجد الجماعات المسلحة عادة ما تسيطر على المناطق التي تتوفر على مصادر الطاقة مثل موزمبيق، والمعادن مثل مالي والنيجر، حتى تستطيع تمويل نفسها من استغلال الطاقة والمعادن.

تركيا، روسيا، الصين وأوكرانيا: حرب المسيّرات في دول الساحل

وقبل تكتيك "حرب الوقود" الذي تنتهجه جماعة "النصرة" استخدمت في مالي "الطائرات المسيرة" من قبل جيوش هذه الدول ومن طرف الجماعات المسلحة على حد سواء. ما يعكس الصراع الدولي عبر التزويد بالمسيرات.

وتسيطر تركيا على سوق المسيّرات في دول الساحل، وهي، حسب تقارير إعلامية، زهيدة مقارنة بالمسيرات الغربية، حيث يتراوح سعرها بين 2 و4 مليون دولار، أي أقل عشر مرات من المسيّرة الأميركية "ريبر" مثلا. وقد حصلت مالي على دفعتين من هذه المسيّرات في 2022 و2023، كذلك فعلت بوركينا فاسو والنيجر. كذلك اقتنت دول الساحل مسيرات تركية أكثر تطورا، تصل تكلفتها إلى نحو 35 مليون دولار.  

من جهتها، وحسب تقارير إعلامية غربية وإفريقية، تستخدم "جبهة تحرير أزواد" مسيّرات تعمل بالألياف البصرية، تستطيع الصمود أمام أنظمة التشويش، وهي تقنية أوصى بها خبراء أوكرانيون الذين ساعدوا متمردين ماليين خلال معركة "تينزواتن" شهر جوان 2024.

أما "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، فتستخدم "مسيرات صينية" زهيدة التكلفة يتراوح سعرها بين 90 و350 الف دولارا، كما حدث في الهجوم على معسكر "بوليكسي" في جوان 2025، حيث أسقطت متفجرات بواسطتها. أما "تنظيم الدولة"، فقد استخدم مسيّرات انتحارية في هجوم على "إكنيوان" بنيجيريا شهر ماي 2025، أسفر عن مقتل نحو 40 جنديا نيجريا.

وهكذا تعزز تركيا وروسيا والصين نفوذها على حساب القوى الغربية حيث تزداد تبعية دول الساحل لمورّدي السلاح، ويضفي دخول أوكرانيا على خط الدعم العسكري لدعم جماعات مسلحة ضد الفيلق الإفريقي بعدا دوليا.

وفي المحصلة يمكن القول، أن النظام العسكري الحاكم في مالي، الذي اتجه نحو الحكم الفردي، وحل الأحزاب، وإقالة الضباط والجنرالات، واعتقاده أن كل شيء يمكن حله بالقوة، وانتهاج سياسة خارجية غير مدروسة وغير متزنة، لاسيما انسحابه من تطبيق اتفاق السلم والمصالحة الموقع بالجزائر عام 2015، ساهم في فرض العزلة على مالي قبل أن تفرض "النصرة" حصار الوقود على باماكو. وهذا وحده يكفي لإضعاف الدولة، ويضاف إليها الصراع الدولي والمحلي على مناجم الذهب، الأمر الذي رشح مالي للانفجار في أي لحظة، وربما للانهيار إذا لم يتم تدارك الوضع 

المقال القادم

اتجاهات حرب الوقود في مالي:

"الأفغنة والسرينة" واحتمالات "الأكرنة" ونموذج "ناغورني كارباخ"

تاريخ Nov 13, 2025