لماذا قررت المملكة العربية السعودية و هي الدولة الأكثر نفوذا داخل منظمة اوبك ان ترفع الانتاج بدل خفضه مع العلم ان رفع الانتاج يعني في كثير من الاحيان خفض سعر البرميل و هذا لا يخدم اقتصاديات الدول المصدرة التي تحتاج الى مداخيل كبيرة من اجل تمويل مشاريع التنمية الاقتصادية و الاجتماعية لديها؟
فاجئت المملكة العربية السعودية عالم النفط في شهر افريل المنصرم عندما دفعت دول اوبك + إلى زيادة الانتاج باكثر من 411 الف برميل يوميا، و قد تكرر السعودية نفس الخطوة في اجتماع دول أوبك + المزمع عقده في شهر جوان، حسب تقارير وكالات الانباء العالمية. و تأتي هذه الزيادات في الانتاج بعد حوالي خمس سنوات متتالية من مقاربة خفض الانتاج الذي حاولت من خلالها المملكة رفع مداخيلها برفع سعر البرميل.
و قد ادى قرار زيادة الإنتاج المفاجئ في افريل إلى خفض سعر البرميل حيث تدحرج إلى أقل من 60 دولار و هو اقل مستوى له منذ 4 سنوات و قد يستمر هذا الانخفاض ليبلغ سعر لن تستطيع الدول المصدرة معه صبرا بالنظر إلى اعتمادها الكبير على مبيعات النفط.
و تحتاج دولة مثل السعودية إلى برميل بسعر 90 دولار و دولة مثل الجزائر إلى برميل بسعر 156 دولار حتى يمكنهما تمويل ميزانيتهما، حسب معطيات نشرها صندوق النقد الدولي قبل ايام.
لماذا رفع الانتاج بدل خفضه؟
توجد اسباب مختلفة تفسر تشكل قناعة جديدة، قناعة رفع الانتاج لدى المملكة العربية السعودية بدل قناعة خفض الانتاج التي كانت سائدة في السنوات الاخيرة.
يبدو ان السبب الاول و المباشر trigger وراء قرار زيادة الإنتاج هو تسليط عقوبة على بعض دول اوبك التي لم تلتزم بحصتها و تجاوزتها مما اضر بالعمل الجماعي داخل منظمة اوبك + ، دول مثل كازاخستان و العراق و الإمارات العربية المتحدة لم تلتزم بقاعدة الحصص التي اعتمدتها اوبك من اجل اعادة التوازن الى السوق بعد انهيار السوق و تهاوي الاسعار في 2008.
اما السبب الثاني في رفع الانتاج فهو مرتبط بالزيارة التي ينوي القيام بها رئيس الولايات المتحدة الاميركية دونالد ترامب إلى المملكة العربية السعودية في 13 ماي و معروف عن ترامب انه من اكبر المعارضين لسعر برميل مرتفع و تأكد ذلك في عهدته الاولى حيث مارس الضغط و حتى الابتزاز على دول اوبك و امرهم برفع إنتاجهم من اجل ان تنخفض اسعار البرميل حتى لا ينزعج المستهلك الأمريكي.
و السبب الثالث الذي يمكن ان يفسر اعتماد السعودية مقاربة جديدة هو أن سياستها السابقة المتمثلة في "أقرب سعر ممكن إلى 100 دولار للبرميل" لم يعد ممكن تحقيقه دون خسارة حصص كبيرة في سوق النفط لان ارتفاع سعر البرميل يستوجب خفض كبير للانتاج، و هذا يضيّع حصص قد لا تتمكن السعودية من استدراكها في السنوات القليلة القادمة.
اما السبب الرابع و الاساسي وراء خفض السعودية انتاجها فهو اقتناع القيادة لديها بان وصول رجل اعمال إلى الرئاسة في امريكا في شخص دونالد ترامب هو فرصة ذهبية على المملكة ان لا تفوتها من اجل تحقيق مكاسب استراتيجية مثل بناء صناعة نووية مدنية و شراء طائرات حربية من نوع F35 و الحصول على منظومة القبة الذهبية المتطورة و غيرها من المزايا و المكاسب التي لا يمكن تصور حصول السعودية عليها مع رئيس آخر غير ترامب الذي لا يتردد أبدا في إبرام صفقات من اجل الحصول على المال، و قد وعدت المملكة بضخ 1000 (الف مليار دولار) مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي في السنوات القليلة المقبلة، هذا من جهة. و من جهة أخرى يوجد دونالد ترامب اليوم في وضعية صعبة بعد بداياته المتعثرة في دفع الاقتصاد الأمريكي إلى الامام و دخوله في حيط بسبب حرب الرسوم ضد دول العالم عموما و الصين خصوصا (كما انه لم يحقق السلم بين روسيا و أوكرانيا و لا السلم في غزة و لم يشتري غرينلاند و لم يضم كندا …) مما دفع باسعار المواد الغذائية في امريكا على سبيل المثال إلى الأعلى، الأمر ألذى دفع بالمستهلك الأمريكي الى الغضب و قد يسحب ثقته من ترامب.
لا شك ان السعودية تملك كل هذه المعطيات و قد ادرك اميرها و ولي العهد محمد بن سلمان بان زمن الصفقة الكبرى مع ترامب قد حان. و بالإضافة الى ذلك لا بد من الاشارة هنا بان سعر برميل بحوالي 50 دولار للبرميل لا يؤثر تأثيرا كبيرا على مداخيل السعودية على المدى القصير و حتى المتوسط لانها تملك البدائل خارج النفط، و من هذه البدائل صادراتها خارج المحروقات التي بلغت 85 مليار دولار في 2024 بزيادة 13% بالمقارنة مع 2023، كما يحتوي الصندوق السيادي السعودي على حوالي 700 مليار دولار. مع العلم ان مداخيل السعودية من النفط تتجاوز 220 مليار دولار سنويا ( انتاج السعودية حوالي 10 مليون برميل يوميا و يمكن ان يصل الى 12 مليون برميل يوميا) و في حال انخفاض البرميل قد تنخفض المداخيل في حدود النصف اي اكثر من 100 مليار دولار، هذا يعني ان المملكة تملك سيولة كافية لتسيير شؤونها بسعر 50 دولار للبرميل دون ان يحدث ذلك إخلالا جوهريا بالنسبة للتوازنات الكبرى في السعودية.
ما محل الجزائر من الاعراب "الجديد" داخل اوبك؟
يمكن القول بان الخاسر الأكبر من تراجع مداخيل النفط بسبب رفع انتاج المملكة العربية السعودية هي الدول الناشئة التي تحتاج سعر برميل مرتفع نسبيا من اجل تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية و الاجتماعية في ظروف مقبولة، و من هذه الدول الجزائر التي تعتمد اعتمادا كبيرا جدا على مداخيل المحروقات في انتظار دخول البدائل الى ارض الواقع فمعظمها في طور الانجاز. و يرى بعض الخبراء بان هدف السعودية من وراء رفع انتاج النفط قد يكون وقف بروز الدول الناشئة المنافسة لها. و لا مفر للجزائر إذا ارادت الخروج من اشكالية رفع الانتاج و انخفاض الاسعار المفروضة عليها فرضا ان تسارع في تطبيق الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية و تنويع مصادر الدخل لتخرج نهائيا من دائرة عدم التحكم في مداخيلها المالية بسبب تقلبات أسعار البرميل.
احمد العلوي