من واشنطن: محمود بلحيمر
ما أن هدأت دراما المواجهة النارية بين ترامب وحليفه السابق إيلون ماسك حتى دشّن ترامب أزمة جديدة هذه المرة مع حاكم ولاية كاليفورنيا حول ملف الهجرة، الذي قد ينذر باضطرابات غير مسبوقة في الشارع الأميركي.
الاحتجاجات العنيفة على سياسة الهجرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب تتمدد من مدينة لوس أنجلس بولاية كاليفورنيا إلى مدن أميركية أخرى. نحو 700 من قوات "المارينز" تصل المدينة التي باتت تحت حظر التجول في مشهد غير مسبوق في أميركا. شوارع المدن الأميركية، تحولت إلى حلبة لمواجهة سياسية حادة بين المعسكريْن السياسيين الرئيسيين في البلاد؛ الأول في وضع المهاجم ويتزعمه ترامب وحركته "ماغا" بسياسات متشددة في مجال الهجرة، والثاني بزعامة الديمقراطيين يتعهد بمقاومة ما يصفه بالنزعة الديكتاتورية لترامب.
غضبُ الشارع في لوس أنجلس سببه إقدام عناصر إدارة الهجرة والجمارك الأمريكية (ICE) على تنفيذ مداهمات وحملة اعتقالات لمهاجرين غير شرعيين في أحياء المدينة تمهيدا لترحيلهم في إطار سياسة ترامب المتشددة إزاء الهجرة غير الشرعية. ولوس أنجلس هي من المدن التي يسيطر عليها الديمقراطيون وتُعرف بـ"الملاذات الآمنة" للمهاجرين غير الشرعيين، حيث تغض السلطات الطرف عنهم فيعيشون بها حياة عادية ولا يخشون عواقب الاعتقال والترحيل مثلها مثل نيويورك وشيكاغو وسياتل وغيرها. لقد كانت تلك الاعتقالات بمثابة الصدمة في صفوف المجتمعات المحلية في مدينة لوس أنجلس التي يشكل فيها اللاتينيون قرابة 50 بالمائة من السكان (كاليفورنيا كانت تابعة للمكسيك وسيطرت عليها أميركا عام 1850 خلال الحرب الميكسيكية الأميركية).
ترامب يستدعي الجيش وحاكم كاليفورنيا يتهمه بصب الزيت على الناس
حاكم ولاية كاليفورنيا غافن نيوسوم، قال في خطاب مساء الثلاثاء 10 مايو إن "ما يحدث الآن مختلف تمامًا عن أي شيء رأيناه من قبل"، مشيرا إلى "استهداف عشوائي للعائلات المهاجرة الكادحة" وفق تعبيره، وقال إن "العائلات تتشتت والأصدقاء يختفون"، مضيفا أنه "بدلاً من التركيز (من جانب إدارة ترامب) على المهاجرين غير الشرعيين ذوي السجلات الجنائية الخطيرة والأشخاص الصادر بحقهم أوامر ترحيل نهائية، وهي استراتيجية لطالما أيّدها الحزبان، فإن هذه الإدارة تدفع باتجاه عمليات ترحيل جماعية".
بالنسبة لسردية الديمقراطيين، وغافن نيوسوم تحديدا، فإن المظاهرات التي اندلعت في المدينة تندرج في إطار ممارسة الأميركيين لحقهم في التظاهر، كما هو مكرّس في التعديل الأول للدستور الأميركي، وكانت تظاهرات سلمية في البداية ثم سرعان ما تخللتها تجاوزات وأعمال عنف ونهب للمتاجر، لكن شرطة المدينة قادرة على التعامل معها وعلى ضبط الأمن حيث اعتقلت نحو 370 شخصا. ما ألهب الوضع هو ترامب، وفق حاكم الولاية، الذي قال إن "ترامب اختار التصعيد مجددًا؛ اختار المزيد من القوة"، مشيرا إلى استدعاء ترامب لـ2000 عنصر من الحرس الوطني ثم إرساله 700 من قوات المارينز إلى كاليفورنيا للتصدي للتظاهرات.
أما سردية الجمهوريين فتقول إن الحكومة الفدرالية بزعامة ترامب بصدد تنفيذ واحدة من ركائز أجندته الانتخابية وهي مكافحة الهجرة غير النظامية، ويجب على الحكومات المحلية التعاون مع إدارة الهجرة والجمارك في سعيها لتوقيف المهاجرين غير الشرعيين، ويقولون صراحة: "إذا كنت مهاجرا غير شرعي في أميركا فينبغي لك أن تغادر فورا". ترامب يقول إنه استدعى الحرس الوطني لأن التظاهرات العنيفة كانت ستدمّر مدينة لوس أنجلس، وأن حاكم ولاية كاليفورنيا غير كفء، كما هدد باعتقاله.
بينما يعتقد حاكم ولاية كاليفورنيا أن ترامب تعمّد صب الزيت على النار بدعوته الحرس الوطني من دون أن يطلب حاكم الولاية ذلك. أكثر من ذلك يتهم نيوسوم ترامب بالتعدي على سيادة الولاية، وكتب إلى وزير الدفاع الأميركي، بيث هيغسيث، طالبًا منه إلغاء نشر الحرس الوطني. كما لجأ نيوسوم إلى القضاء لإبطال قرار ترامب، وجاء في الشكوى "أن نشر أكثر من 4000 جندي من القوات الفيدرالية لقمع احتجاج أو منع احتجاجات مستقبلية، رغم عدم وجود أدلة على عجز سلطات إنفاذ القانون المحلية عن فرض سيطرتها وضمان السلامة العامة خلال مثل هذه الاحتجاجات، يُمثل بالضبط نوع التدخل في سلطة الولاية الذي يُشكل جوهر التعديل العاشر للدستور الأميركي".
هناك تحليلات ذهبت إلى أن ترامب تعمّد المواجهة مع غافن نيوسوم بسبب كونه الأوفر حظا ليكون مرشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية لعام 2028.
ينبغي التذكير أن آخر مرة أمر فيها رئيس أميركي الحرس الوطني بالتدخل لضبط الأمن، من دون موافقة حاكم الولاية، كان عام 1965 عندما حشد الرئيس ليندون جونسون القوات في ألاباما للدفاع عن المتظاهرين المطالبين بالحقوق المدنية وتنفيذ أمر محكمة اتحادية. وتمت تعبئة الحرس الوطني لضبط الأمن في حالات أخرى ولكن بناءً على طلب من حاكم الولاية المعنية. ومن ذلك ما حصل في مدينة لوس أنجلس نفسها في عام 1992 عندما نشر الرئيس جورج بوش الأب الحرس الوطني للمساعدة في ضبط الأمن عقب موجة احتجاجات وأعمال نهب بالمدينة، بعد طلب من حاكم الولاية حينذاك بيت ويلسون وعمدة المدينة توم برادلي.
ما يجري في كاليفورنيا مرشح للامتداد إلى ولايات أخرى، وهو يعكس صراعا سياسيا عميقا في أميركا، وسياسة الهجرة في صلب هذا الصراع. هناك تصادم بين نهجين مختلفين، أو لنقل أن هناك تناقضا إيديولوجيا بين حركة ماغا بزعامة ترامب والديمقراطيين. فترامب بنى حملته الانتخابية للرئاسيات في ولايتيه الأولى والحالية على ملفي الاقتصاد والهجرة. وخلال الانتخابات الأخيرة أظهرت استطلاعات الرأي أن الناخبين صوتوا لترامب بسبب رؤيته للاقتصاد بنحو 50 بالمائة ثم بسبب سياسته حول الهجرة بنحو 30 بالمائة. ولنتذكر أن ترامب ظل يكرر عبارات مشينة إزاء المهاجرين منذ أعلن ترشحه للولاية الأولى واصفا اياهم بالمغتصبين والمجرمين وخريجي السجون،، وفي آخر حملته الانتخابية كرر أخبارا زائفة تزعم بأن مهاجرين من هايتي يأكلون القطط والكلاب في مدينة أوهايو الأميركية.
أكثر من 11 مليون مهاجر غير شرعي يعيشون في أميركا
يعيش في الولايات المتحدة أكثر من 11 مليون مهاجر غير شرعي، وفق تقديرات رسمية. يشكل هؤلاء جزءا من القوة العاملة النشطة في الاقتصاد الأميركي لاسيما في قطاعي الخدمات والزراعة والبناء، ولذلك يعترض بعض أرباب أعمال الترحيل الجماعي للمهاجرين لأن ذلك سيحرمهم من الأيدي العاملة الرخيصة. وتفاقمت أزمة عبور المهاجرين للحدود الجنوبية خلال إدارة الرئيس جو بايدن حيث شهدت تدفقا غير مسبوق للمهاجرين وطالبي اللجوء. ووفق إحصائيات رسمية رصدت سلطات الهجرة عبور نحو 300 ألف شخص خلال شهر ديسمبر لوحده من عام 2023.
خلّف ذلك استياءً عارما في أوساط الأميركيين لاسيما في ظل محدودية الموارد لدى سلطات المدن الجنوبية، وقام حاكم ولاية تكساس الحدودية مع المكسيك بإرسال قوافل المهاجرين في حافلات إلى نيويورك وواشنطن العاصمة لإحراج الديمقراطيين، كما أثيرت مسألة تزايد معدلات الإجرام. وكان ذلك كافيا لتحريك النزعة المعادية للهجرة والتأثير في الشارع الأميركي، وروجت الأوساط اليمينية وأنصار تفوق العرق الأبيض لأفكار مفادها أن المهاجرين يستولون على وظائف الأميركيين ويغرقون المدن مثل الفيضانات الجارفة وهم بصدد تغيير التركيبة الديموغرافية لأميركا وسيصبح البيض أقلية في "عقر دارهم" قريبا، وفق نظرية "الاستبدال العظيم" (The Great Replacement) الرائجة في الأوساط اليمينية حتى في أوروبا.
ملف الهجرة.. رهان رابح لترامب
يشعر ترامب بأنه يمتلك ورقة قوية في مواجهة خصومه الديمقراطيين، ويحاول إظهار القادة الديمقراطيين الذين جعلوا مدنهم ملاذا آمنة للمهاجرين بأنهم لا يتعاونون مع الحكومة الفدرالية في كبح الهجرة وتطهير المدن الأميركية من المجرمين. يريد ترامب أن يظهر في صورة الرئيس القوي بصلاحيات واسعة تسمح له بإنفاذ القانون، وبأنه يحقق تقدما في أحد أهم وعوده الانتخابية. والواقع أن أزمة الحدود خلال أعوام بايدن منحت ترامب ما يشبه التفويض للمضي في سياسات متشددة للهجرة.
فملف الهجرة يشكل معظلة بالنسبة للديمقراطيين، وهو سبب خسارتهم انتخابات نوفمبر 2024 وجعل الشارع الأميركي يميل نحو ترامب، كما أنه الملف الوحيد الذي حقق فيه ترامب بعض التقدم، إذ تشر بيانات إلى تراجع معدل المهاجرين الذين عبروا الحدود الجنوبية بنحو 36 بالمائة مقارنة بمعدلات عام 2024. ملف الهجرة مكّن ترامب من نقل المعركة إلى "المدن الزرقاء" معقل الديمقراطيين حيث يحاول إظهار القادة الديمقراطيين بحالة ضعف، ولم لا حرمانهم من السند الانتخابي من المؤيدين للمهاجرين الذين كانت لهم كلمتهم ضد الجمهوريين في مواعيد انتخابية على مدار عقود.
أما الديمقراطيين، وإن كانوا يدعمون طرد المهاجرين الذين ارتكبوا جرائم ومن صدرت بحقهم أوامر ترحيل نهائية، فهم يعترضون على الترحيل الجماعي كما يريد ترامب. ويحاولون كسب المعركة مع الرأي العام بعرض ما يصفونه بـ"انتهاكات دستورية وقانونية" ارتكبها ترامب. وقد لخّص ذلك حاكم كاليفورنيا إن ترامب "رئيسٌ لا يريد أن يُقيّد بأي قانون أو دستور. يشنّ هجومًا مركزا على التقاليد الأمريكية. إنه رئيس وفي غضون ما يزيد قليلًا عن 140 يومًا أقال هيئات الرقابة الحكومية التي كان من الممكن أن تُحاسبه على الفساد والاحتيال. وأعلن حربًا على الثقافة والتاريخ والعلم وعلى المعرفة نفسها. وهدد بوقف تمويل الجامعات ويسعى لكي يُملي عليها ما يمكنها تدريسه..".
إنها معركة سياسية طويلة الأمد بين تيار ترامب "ماغا" والديمقراطيين حول تغيير وجهة أميركا، نتائجها الأولية ستظهر في انتخابات الكونغرس في نوفمبر 2026.
م. ب