يواجه الاقتصاد الجزائري منذ زمن طويل سوقاً سوداء للعملة متجذّرة وعصيّة على الاحتواء، تتسبّب في تشوّهات بأسعار الصرف وتعرقل جهود تنويع الاقتصاد بعيداً عن قطاع المحروقات، فضلاً عن حرمان خزينة الدولة من إيرادات حيوية. وتشير تقديرات اقتصاديين محليين ومراقبين دوليين إلى أنّ حجم هذه السوق الموازية قد بلغ نحو 80 مليار دولار أمريكي، تبقى خارج نطاق رقابة السلطات الرسمية. وفي قلب هذا المشهد، تحتل "الساحة" في وسط العاصمة مكانة محورية، إذ تمثّل مركزاً للتبادل الموازي للعملة بما يقارب 10 مليارات دولار أمريكي سنوياً، لا تجد طريقها مطلقاً إلى خزينة الدولة.
الثمن الباهظ للاقتصاد الموازي
تولّد هذه المنظومة غير الرسمية اختلالات هيكلية عميقة. فعلى الرغم من عزم الدولة زيادة صادراتها غير المرتبطة بالمحروقات، التي لم تتجاوز 5.05 مليارات دولار أمريكي عام 2023، فإنّ التجارة الموازية تقوّض السياسات الرسمية. وما دام تدفّق العملة الصعبة خارج الأطر القانونية مستمراً، سيظل هدف الحكومة الطموح بتجاوز 30 مليار دولار أمريكي سنوياً من الصادرات غير الهيدروكربونية بعيد المنال. ومع ترقّب استيراد ما قيمته 40 مليار دولار أمريكي عام 2024، لا يزال وجود سعرين متوازيين للعملة – رسمي في مواجهة موازٍ – يعيق القدرة التنافسية الدولية ويزيد الضبابية حول مسار الاقتصاد الجزائري.
قصة سعرين للصرف
على المستوى الرسمي، يُدار الدينار الجزائري بهدف الحفاظ على الاستقرار وكبح التضخم. غير أنّ السوق الموازية، التي تتجسّد في "الساحة"، تحدّد سعراً خاصاً بها، غالباً ما يكون أضعف بكثير من السعر الرسمي. هذا السعر غير الرسمي يشجّع على احتكار العملة الصعبة ويثني عن نموّ القطاع الرسمي، كما يدفع بعض المؤسسات إلى الابتعاد عن الامتثال للتشريعات الحكومية. وفي غياب تدخل تنظيمي حازم، ستبقى هذه المنظومات الموازية مزدهرة، مستنزفةً بذلك إيرادات تحتاجها البلاد، ومحبطةً مساعي المستثمرين الشرفاء.
يرى بعض الاقتصاديين أنّ تقريب السعر الرسمي من السعر المطبّق في السوق السوداء قد يضفي وضوحاً أكبر ويحقّق منافسة أكثر عدلاً. فلو اقتربت القيمة الرسمية للدينار من تقييمات "السكوار"، فقد تحظى الجزائر برؤية دولية أوضح، وتشجّع المشترين الأجانب على اعتبار السلع الجزائرية ذات أسعار جذّابة، فيحفّز ذلك الصادرات وينعش صناعات راكدة.
خفض قيمة العملة كاستراتيجية طويلة الأمد
ثمّة حجج مقنعة لصالح خفض تدريجي لقيمة الدينار على مدى سنتين أو ثلاث، بهدف تقريب قيمته الرسمية من الواقع المتداول في السكوار. فمن شأن خفض العملة أن يجعل الصادرات أرخص وأكثر استقطاباً للمشترين الدوليين، ما قد يعزّز القطاعات غير المرتبطة بالمحروقات ويساعد على تحقيق هدف الـ 30 مليار دولار أمريكي المنشود في مجال التصدير.
غير أنّ خفض قيمة العملة يحمل في طيّاته تحديات، أبرزها خطر ارتفاع التضخم. فعندما تنخفض قيمة العملة الوطنية، ترتفع أسعار المواد المستوردة، مما يؤدّي إلى زيادة تكاليف الإنتاج وأسعار السلع الاستهلاكية. وتشير دراسات اقتصادية دولية إلى أنّ هذه الظاهرة شائعة في الدول التي اعتمدت خفضاً في قيمة عملتها لتعزيز التنافسية، كما شهدته بعض دول أمريكا اللاتينية في مراحل مختلفة. وبالنظر إلى اعتماد الجزائر الكبير على الواردات، فإنّ ارتفاع الأسعار سيصبح ملموساً لدى المواطن العادي، مما يستدعي سياسات تحكّم صارمة في التضخم.
دروس من الخارج: الصين واليابان وتجارب أخرى
لا تنطلق الاستراتيجية الجزائرية المحتملة من فراغ. فالصين أدارت عملتها لعقود للحفاظ على ميزة تنافسية، رغم التوجه التدريجي نحو مرونة أكبر. أمّا اليابان، فاستفادت من ضعف نسبي للين لجعل صادراتها ذات جودة عالية وأسعار مناسبة دولياً. لكن هذه التجارب لم تتحقّق من دون سياسات موازية للسيطرة على التضخم، كتحكّم السلطات النقدية في المعروض النقدي، وتعزيز الاحتياطيات الأجنبية، واعتماد سياسات مالية صارمة ومراقبة الأسعار، لضمان ألا يتحوّل خفض العملة إلى عبء على المستهلك.
الضعف الهيكلي وضرورة الإصلاح
على الرغم من أهمية خفض قيمة العملة لجعل الصادرات الجزائرية أكثر تنافسية، فهذا ليس حلاً سحرياً. إذ ما تزال الشركات الجزائرية تعاني من ضعف هيكلي، نتيجة عقود من الاعتماد على المحروقات، وضعف القطاع الخاص، وغياب الحافز للابتكار وتحسين الإنتاجية وجودة المنتجات. ويتطلب الأمر استثمارات لتحسين البنى التحتية، وتعزيز الابتكار، وتبسيط الإجراءات الإدارية لتحفيز نشأة مؤسسات خاصة قوية، ترفع من تنافسية الاقتصاد الجزائري.
كما يحتاج كبح السوق السوداء إلى تشديد الرقابة للحدّ من التدفقات غير المشروعة للعملة. يمكن الاستفادة من التجارب الدولية عبر اعتماد أنظمة دفع رقمية، وتعزيز الرقابة الجمركية، وتفعيل قوانين مكافحة تبييض الأموال. انّ تفكيك الاقتصاد الموازي "الفرانكنشتايني" مسألة حتمية لاستعادة العائدات وتعزيز الاستقرار المالي.
السيطرة على التضخم: سياسات واستراتيجيات مجرّبة دولياً
في حال قرّرت الحكومة الجزائرية المضي في سياسة خفض العملة، فإنّ مرافقة هذه الخطوة بسياسات صارمة لمكافحة التضخم أمر لا غنى عنه. من بين هذه السياسات:
1. سياسة نقدية تقييدية
: رفع أسعار الفائدة تدريجياً والتحكّم في المعروض النقدي يمكن أن يخفف من معدّلات التضخم. نجحت دول كبرازيل والمكسيك في احتواء التضخم بعد خفض العملة عبر استقلالية البنك المركزي ووضع أهداف تضخمية واضحة.
2. دعم الفئات الضعيفة عبر إصلاح نظام الدعم
تنتهج الجزائر منذ عقود سياسة دعم واسعة لسلع أساسية مثل زيت المائدة، زيت السيارات، الدقيق، والسكر، ما يجعل شرائح واسعة من المجتمع لا تدفع السعر الحقيقي لهذه السلع. هذه السياسة، رغم أهدافها الاجتماعية، تفتقر إلى التمييز بين فئات الدخل المختلفة. من غير المعقول أن يدفع شخص يتقاضى 30 ألف دينار شهرياً، ومتزوّج ولديه أربعة أطفال، السعر نفسه لبنزين السيارات الذي يدفعه شخص يتقاضى 500 ألف دينار شهرياً.
هنا تكمن ضرورة إصلاح نظام الدعم ليركّز على المستحقين فعلياً. يمكن للسلطات تطبيق نظام دعم تصاعدي، بحيث يتلقى من يقل دخله عن 50 ألف دينار شهرياً دعماً كاملاً (دعم 100%)، أما من تتراوح دخولهم بين 50 ألف و100 ألف دينار فيدفعون 90% فقط من السعر الحقيقي، ومن 100 ألف إلى 150 ألف دينار يدفعون 80%، ومن 150 ألف إلى 200 ألف دينار يدفعون 70%. أما الأفراد الذين تتراوح دخولهم بين 300 ألف و500 ألف دينار شهرياً فسيلزمون بدفع 60% من السعر، فيما سيضطر من يتقاضون أكثر من 500 ألف دينار شهرياً إلى دفع 50% من السعر الحقيقي. وستتكفل الدولة بدفع الجزء المتبقي، على أن يتم اقتطاع هذه النسب مباشرة من رواتب المستفيدين. هذه الخطوة ستحقق عدالة أكبر وتضمن توجيه الدعم إلى من هم في أمس الحاجة إليه، مع الحد من الهدر المالي.
3. تنويع مصادر الاستيراد وتحفيز الإنتاج المحلي
تخفيف ضغط التضخم ممكن عبر تعزيز الإنتاج المحلي خصوصاً في السلع الأساسية، وتنويع مصادر الاستيراد للحدّ من الاعتماد على مورد واحد. هكذا يمكن تقليص تقلبات الأسعار العالمية.
4. تحسين سلاسل التوريد ومكافحة الاحتكار
فرض رقابة صارمة على سلاسل التوزيع ومنع الاحتكار والتلاعب بالأسعار يساهم في استقرار السوق. لجأت دول عديدة إلى تأسيس هيئات رقابية قوية لحماية المستهلك وضمان الشفافية في آليات التسعير.
5. حوار دائم مع الفاعلين الاقتصاديين
يمكن للسلطات إجراء حوار منتظم مع غرف التجارة والصناعة والنقابات والجمعيات المهنية لمراقبة مؤشرات التضخم ووضع خطط استباقية. هذا الحوار يقلل من صدمات ارتفاع الأسعار، ويتيح آلية إنذار مبكر، ويضمن تجاوباً أسرع مع التقلبات.
التواصل والثقة والقبول المجتمعي
تظل ثقة الرأي العام عنصراً محورياً. فكل خطوة نحو خفض العملة أو تشديد المراقبة على السوق السوداء، أو إصلاح نظام الدعم، أو تطبيق سياسات مكافحة التضخم، يجب أن تترافق باستراتيجية اتصال واضحة. وعلى السلطات إشراك الجمهور والقطاع الخاص والهيئات المهنية، وشرح الأسس والمنهجية والفوائد المتوقعة، مع تسليط الضوء على الإجراءات الحمائية للمستهلكين ذوي الدخل المحدود. ويمكن لإشراك مراكز الأبحاث والجامعات والخبراء المستقلين في صياغة السياسات أن يساعد المواطنين على فهم أنّ التضحيات المحدودة على المدى القصير قد تثمر عن مكاسب مستدامة على المدى البعيد.
وفي ظل انفتاح اقتصادي حذر، وازدهار قطاع السياحة بدعم من الجالية الجزائرية في الخارج، يمكن لنظام صرف مستقر وشفّاف، مدعوماً بسياسات عادلة للدعم، أن يطمئن المستثمرين ويشجع على مشاريع جديدة ويعيد رسم صورة الجزائر الاقتصادية دولياً. إنّ الانتقال من ظلال "الساحة" إلى مؤسسات مالية منظّمة، وإصلاح منظومة الدعم، وتعزيز إجراءات ضبط الأسعار، سيضيف مزيداً من الثقة والشفافية ويهيّئ بيئة تنافسية تزدهر فيها ريادة الأعمال القانونية.
نحو مستقبل أكثر شفافية وتنافسية واستقراراً للأسعار
إن المعركة مع السوق السوداء للعملة، والتساؤلات حول خفض مدروس لقيمة الدينار مع ضبط التضخم، وإصلاح منظومة الدعم لتوجيهه إلى مستحقيه، تعكس مدى تعقيد الوصول إلى تنويع اقتصادي مستدام وعدالة اجتماعية أعمق. وسيعتمد نجاح الجزائر على نهج شامل ومتعدّد الأبعاد: كبح الاقتصاد الموازي بقيمة 80 مليار دولار أمريكي، والسيطرة على الـ10 مليارات دولار في "السكوار"، وتفعيل سياسات نقدية ومالية متوازنة، وتعزيز الإنتاج المحلي، وإصلاح الدعم ليصل إلى مستحقيه الفعليين، مع ضمان آليات فاعلة لضبط التضخم وحماية القدرة الشرائية للمواطنين.
ومن خلال استلهام الدروس من التجارب العالمية، ووضع استراتيجية واضحة لقيمة الدينار ومكافحة التضخم، وإصلاح منظومة الدعم على أسس عادلة، وبناء الثقة عبر تواصل شفاف، يمكن للجزائر تفكيك العوائق التي أعاقت إمكاناتها الاقتصادية. هذه التحوّلات، رغم صعوبتها، تبشّر بمستقبل أكثر توازناً وازدهاراً، حيث يقوم الاقتصاد على أسس رسمية متينة، وصادرات متنوعة، وعدالة اجتماعية حقيقية، مع استقرار في الأسعار يضمن حماية الفئات الضعيفة ويحفّز النمو في المدى الطويل.
شيخي زهير
مهندس مختص في الاقتصاد و النفط