من واشنطن: محمود بلحيمر
الرئيس دونالد ترامب بصدد تغيير أميركا. لكن هناك مخاوف يتم التعبير عنها بشكل علني في الأوساط السياسية والأكاديمية من أن هذا التغيير سيكون على حساب الديمقراطية الأميركية. أكثر من ذلك، هناك من يقول إن أميركا تمضي ببطئ نحو الديكتاتورية!
يريد ترامب أن يكون الرجل الأقوى في واشنطن، في مواجهة الكونغرس والمحاكم والصحافة ومؤسسات الرقابة الحكومية الأخرى، معتمدا على التأييد الشعبي الذي حظي به في انتخابات نوفمبر 2024. ساعده في ذلك أن الكونغرس، الذي يسيطر أنصاره الجمهوريون على غرفتيه، لا يحرك ساكنا خوفا من إثارة غضب قاعدة ترامب الانتخابية "ماغا" (أي جعل أميركا عظيمة مرة أخرى) بحيث يخشى أعضاء الكونغرس الجمهوريون من أن معارضتهم العلنية لسياسات ترامب ستكلفهم خسارة مقاعدهم في انتخابات تجديد الكونغرس المقررة في نوفمبر 2026.
ومنذ ولايته الأولى (2017-2021) كان ترامب قد أبان عن نزعته الفردية في الحكم؛ بحيث كان يريد التصرف مثل مدير شركة عقارات يصدر ما يريد من قرارات تُنفذ بسرعة ومن دون قيود، وكان ينظر باشمئزاز إلى القيود التي تكبله وتمنعه من اتخاذ بعض القرارات، وهي القيود التي تفرضها الإجراءات الإدارية والقانونية لعمل الوكالات الحكومية في واشنطن. ضف إلى ذلك شخصية ترامب المعجب كثير ببعض رؤساء العالم الأقوياء في حكومات بلادهم مثل فلاديمير بوتين في روسيا واردوغان في تركيا بل وحتى السيسي في مصر. ولقد رأينا خلال ترأسه لاجتماعات حكومته كيف أن ترامب يشعر بالانتشاء عندما يتداول وزراؤه على مدحه والحديث عن التغير الحاصل في أميركا بسبب "قيادته الرشيدة وإجراءاته الشجاعة" مثلما يمدح الوزراء الزعيم في الأنظمة الاستبدادية!
ترامب مضى بسرعة قصوى في تفكيك إدارات ووكالات الحكومة الفدرالية وطرد موظفيها، وإصدار عدد غير مسبوق من الأوامر النفيذية، وتنفيذ سياسة راديكالية في ملف الهجرة دون الاكتراث للاجراءات القانونية الواجبة دستوريا، وملاحقة الخصوم في قطاعي الإعلام والمحاماة، وتجاهل قرارات المحاكم، ثم الحديث عن ضم حزيرة غرينلاند، والسيطرة على قناة بنما، وامتلاك غزة، ورغبته في جعل كندا الولاية الحادية والخمسين، وهي تصريحات تنم عن نزعة دكتاتورية أو سلطوية بما في ذلك على مستوى العلاقات الدولية.
ترامب وقّع 148 أمرا تنفيذيا إلى غاية 12 مايو الجاري
فعلى سبيل المثال وقّع الرئيس الأميركي منذ استلامه مفاتيح البيت الأبيض في 20 يناير الماضي 148 أمرا تنفيذيا إلى غاية 12 مايو الجاري، منها 143 خلال المائة يوم الأولى لولايته. يُعد هذا العدد غير مسبوق في التاريخ الأميركي بحيث يتجاوز عدد الأوامر التي وقعها الرؤساء السابقون وأكثرهم استخداما للأوامر فرانكلين روزفيلت في عام 1933 الذي وقع 99 أمرا تنفيذيا. وبلغ عدد الأوامر الرئاسية التي وقعها سلفه الديمقراطي جو بايدن 43 فقط. وينم الاستخدام المفرط للأوامر الرئاسية عن نزعة نحو الانفراد بالقرار السياسي على حساب الكونغرس، وعن سوء استخدام السلطة التنفيذية من قبل الرئيس.
يشير المتخوفون من "النزعة الديكتاتورية" لترامب إلى مسألة التضييق على حرية التعبير، التي يضمنها التعديل الأول للدستور الأميركي، من خلال سلسلة الاعتقالات والمحاكمات التي طالت طلابا بسبب مشاركتهم في التظاهرات الداعمة للفلسطينيين في الحرم الجامعي. من ذلك الطالب الفلسطيني محمود خليل الذي اعتقل في مسكنه أمام زوجته الحامل في مارس الماضي بنيويورك من قبل سلطات الهجرة الأميركية وتسعى إدارة ترامب لطرده من أميركا بسبب دوره في التظاهرات المنددة بالحرب الإسرائيلية المدمرة على غزة، وقضية طالبة الدكتوراه التركية رميساء أوزتورك التي اعتقلت في الشارع واحتجزت في مدينة بوسطن بسبب نشرها لمقال داعم لغزة، إضافة إلى الضغط على جامعات أميركية مثل كولومبيا وهارفارد بحجة عدم اتخاذها لإجراءات لمكافحة معاداة السامية، حسب زعم إدارة ترامب.
يضاف إلى هذا القبضة الحديدة التي تخوضها إدارة ترامب (السلطة التنفيذية) مع المحاكم (السلطة القضائية) وتجاهل أوامر المحاكم. وهنا تظهر قضية المهاجر كيلمار أبريغو غارسيا كنموذج، فبعد أن رحلته الإدارة الأميركية بالخطأ إلى سلفادور، وصدرت قرارات قضائية، بما في ذلك قرارٌ من المحكمة العليا الأميركية، تأمر إدارة ترامب بتسهيل عودته إلى أمريكا، غير أن الإدارة رفضت تنفيذ القرار متحججة بتفسيراتها الخاصة لقرار المحكمة العليا، وتواصلُ اتهام غارسيا بالانتماء إلى منظمة إجرامية صنفتها واشنطن إرهابية و اسمها "أم أس 13"، لكن من دون دليل أو إدانة للمتهم أمام محكمة. ويثير قانونيون وحتى سياسيون مسألة عدم تقيّد إدارة ترامب بالإجراءات القانونية في حملة ترحيل المهاجرين غير الشرعيين.
هناك إجراءات كثيرة لا يمكن حصرها هنا اتخذتها إدارة ترامب واعتبرت انتهاكا للقانون والدستور(من ذلك معاقبة شركتي محاماة مثلت خصوما له في قضايا سابقة)، غير أن هذا النهج يثير مخاوف من نزعة دكتاتورية يفرضها ترامب في ولايته الثانية على أميركا. ويفرض هذا النمط من الحكم حالة من الخوف على المعارضين كنا نراها فقط في الديكتاتوريات من وراء البحار، وتقييد لحريات كانت إلى غاية وقت قريب محل افتخار في أميركا.
ترامب رئيس غير عادي وأميركا تمضي نحو الاستبداد
في مقالة رأي نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" يوم 23 أبريل الماضي، كتب المعلق جمال بوي (Jamelle Bouie): "ترامب ليس رئيسًا عاديًا. ويصعب القول إنه يطمح أصلًا لكي يكون رئيسًا، إذا كنا نعني بـ"الرئيس" مسؤولًا تنفيذيًا، مُلزمًا بالقانون ويخدم في نهاية المطاف وفقًا لإرادة الشعب الأمريكي. كلا، ترامب يريد أن يكون رجلًا قويًا. الزعيم من دون منازع لنظام استبدادي فردي، حيث لا تستطيع أي مؤسسة أخرى، ولا أي سلطة أخرى، معارضته أو معارضة مخططاته بفعالية. ينبغي أن نتذكر وعده بأنه سيكون "ديكتاتورًا في اليوم الأول لولايته". ربما يقصد أيضًا المائة يوم وما بعده أيضا".
وتعبيرا عن نفس القلق نشرت الإذاعة الوطنية العامة المشهورة (NPR) مقالا على موقعها الإلكتروني في 22 أبريل الماضي، كتبه فرانك لانغفيث (Frank Langfitt)، رصد فيه نتائج استطلاع للرأي شمل أكثر من 500 عالم سياسي حيث أظهر "أن الغالبية العظمى منهم يعتقدون أن الولايات المتحدة تنتقل بسرعة من الديمقراطية الليبرالية نحو شكل من أشكال الاستبداد". وفي تقييمهم لأداء الديمقراطية الأمريكية على مقياس يتراوح من صفر (ديكتاتورية كاملة) إلى مئة (ديمقراطية مثالية)، بعد انتخاب الرئيس ترامب في نوفمبر، منح الباحثون الديمقراطية الأمريكية تقييمًا قدره 67 وبعد أسابيع قليلة من ولاية ترامب الثانية انخفض هذا الرقم إلى 55. ويستبعد الباحثون تحول أميركا إلى النموذج الصيني أو أي دولة تتبنى نظام الحزب الواحد التي تفتقر إلى انتخابات نزيهة، بل يشيرون إلى ما يُسمى "الاستبداد التنافسي" مثل ما يحصل في المجر أو تركيا، بحيث يصل زعيم ما إلى السلطة ديمقراطيًا ثم يُقوّض نظام الضوابط والتوازنات، وعادةً ما يملأ الجهاز التنفيذي ومختلف الإدارات الحكومية بالموالين له، ثم يهاجم وسائل الإعلام والجامعات والمنظمات غير الحكومية لكبح جماح الانتقادات وترجيح كفة الميزان الانتخابي لصالح الحزب الحاكم.
مقال آخر مطول نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في 08 مايو الجاري بعنوان: "كيف سنعرف أننا فقدنا ديمقراطيتنا؟"، وقّعه ثلاثة باحثين في العلوم السياسية، يذهب في نفس الاتجاه وهو أن أميركا تتجاوز الخطوط نحو ما يسمونه بـ"الاستبداد التنافسي". كيف يُمكننا تحديد ما إذا كانت أمريكا قد تجاوزت حدود الاستبداد؟ يتساءل أصحاب المقال، الذين يقترحون مقياسًا بسيطًا: وهو تكلفة معارضة الحكومة، ويقولون "في الديمقراطيات لا يُعاقَب المواطنون على معارضتهم السلمية للسلطة ولا يشعرون بالقلق عند نشر آراء نقدية إلخ،، وعلى النقيض من ذلك فإن للمعارضة ثمن في ظل الاستبداد وتصبح أهدافاً لمجموعة من التدابير العقابية.. ويُضطر المواطنون إلى التفكير مليًا قبل انتقاد الحكومة أو معارضتها خشية مواجهة عقابها..".
ويخلص الباحثون إلى أن أمريكا تجاوزت حدود الاستبداد التنافسي، "لقد أدى استخدام إدارة ترامب للوكالات الحكومية كسلاح وسلسلة الإجراءات العقابية ضد المنتقدين، إلى زيادة تكلفة المعارضة على شريحة واسعة من الأمريكيين...". ويشير المقال إلى أن الأمريكيين صاروا في ظل نظام جديد، والسؤال الآن هو: هل سنسمح له بالتجذر؟ ويتأسف الباحثون لكون "رد فعل المجتمع الأمريكي على هذا الهجوم الاستبدادي مخيبًا للآمال، بل ومثير للقلق لكون القادة المدنيون يواجهون مشكلةً صعبةً تتعلق بالعمل الجماعي..".
وعلى نقيض التخوف من سقوط أميركا في فخ "الديكتاتورية"، يطمئنُ آخرون بأن النظام الدستوري الأميركي سيصمد أمام "الترامبية" وهو كفيل بأن يحمي الديمقراطية الأميركية من أي محاولات استبدادية. فزيادة على الدور الذي تلعبه المحاكم في تقييد المحاولات التسلطية لترامب، هناك أيضا الانتخابات التي ستمنح الحزب المنافس الأغلبية التي تقيّد تحركات زعيم البيت الأبيض، وفي حال خسر الجمهوريون الرئاسيات في 2028 سيتم نقض إجراءات ترامب برمتها. وحتى وإن فرض ترامب مناخا منغّصا للمعارضين وقوّض دور بعض المؤسسات الرقابية فإنه لن يفلح في تغيير الدستور الأميركي الضامن للحريات والحقوق على مر العصور.
م.ب