زاوية سيدي بوسحاقي الزواوي، أو زاوية الثنية، هي إحدى الزوايا العريقة في الجزائر، حيث تقع في بلدية الثنية ضمن ولاية بومرداس وجبال الخشنة ومنطقة القبائل، وتتبع لمنهاج الطريقة الرحمانية.
تم تأسيس زاوية الثنية من طرف العالم الجليل "سيدي بوسحاقي الزواوي"، خلال عام 1442م الموافق لعام 846هـ، الذي أسس هذه زاوية للتربية والتعليم بموقع "قرية ثالة أوفلا" في أعالي بلدية الثنية في جبال الخشنة غير بعيد عن جبل بوزقزة، وكانت بمثابة منارة استضاء بها أهل جبال الثنية في منطقة القبائل لقرون.
وتقع هذه القرية ضمن عرش آيث عيشة المتكون من أكثر من 40 قرية أمازيغية زواوية تتمركز حول قرية ثالة أوفلا المسماة قرية الصومعة نسبة إلى قلعة الملك الأمازيغي نوبل الزواوي ثم الملك فيرموس التي كنيتها بنيان نتاع الصومعة .
وكانت هذه المنطقة زاخرة بالعديد من الزوايا التي من بينها "زاوية أولاد بومرداس" بقرية "المرايل" في تيجلابين، و"زاوية سيدي داود" أو "زاوية سيدي أعمر الشريف" بسيدي داود قرب دلس، علما أن مؤسسها قد استقر هناك قادما من قرية إسحنونن بعرش آيث إيراثن، ومن أشهر أحفاده "سيدي أحمد بلعباس" المعروف بالتقوى والورع، و"زاوية سيدي سالم" ببودواو، بالإضافة إلى "زاوية الغبارنة" ببلدية خميس الخشنة، و"زاوية سيدي أمْحَند السعدي" ببلدية أعفير التي ارتبط تاريخها بتدريس علم القراءات ببلاد الزواوة.
هدم الزاوية في 1844م
أول احتكاك بين عرش آيث عيشة مع الاحتلال الفرنسي للجزائر تم في سنة 1837م انطلاقا من مدينة الجزائر.
وقد نشبت معركة كبيرة غير بعيد عن "قرية ثالة أوفلا" اسمها معركة ثنية بني عائشة الأولى آنذاك، قادها من الجانب الفرنسي ماكسيميليان جوزيف شوينبيرغ.
جنب المجاهدون الزواوة القرى العليا وصول الجنود الفرنسيين إليها بما سمح بالحفاظ على "زاوية سيدي بوسحاقي الزواوي" من الهدم.
إلا أن المناوشات بين الجزائريين والفرنسيين قد استمرت في السنوات الموالية إلى غاية سنة 1844م إثر معركة ثنية بني عائشة الثانية، التي قادها من الجانب الفرنسي توماس روبير بيجو، حينما تم الهجوم الكاسح على قرى عرش آيث عيشة وهدم منازله، وكذلك زواياه.
وبعد أن صارت "قرية ثالة أوفلا" عبارة عن أنقاض، تمت إعادة البيوت تدريجيا خلال العقود الموالية، ولكن "زاوية سيدي بوسحاقي الزواوي" لم تتم إعادة بنائها إلى بعد عام 1880م.
وبالإضافة إلى هدم القرى والزوايا، قام المستوطنون المحتلون بهد قلعة بنيان نتاع الصومعة التي كانت رمزا من رموز الإمارات الأمازيغية القديمة التي قاومت تمدد الاحتلال الروماني نحو جبال جرجرة.
إعادة بناء الزاوية في 1890م
سنوات بعد استقرار الاحتلال الفرنسي للجزائر في منطقة القبائل الزواوية، تم الشروع التدريجي من طرف الزواويين الناجين من الإبادة في إعادة بناء الزوايا الصوفية في الجزائر.
قام سيدي محمد بن أبي القاسم الهاملي بتأسيس زاوية الهامل في منطقة الهامل ضمن ولاية المسيلة خلال عام 1862م من أجل نقل مشيخة الطريقة الرحمانية من زاوية سيدي أمحمد بوقبرين الزواوي في بونوح ضمن ولاية تيزي وزو بعيدا عن المستوطنات الأوروبية في سهل متيجة ومنطقة الزواوة.
ثم تلاه "سيدي عبد القادر الحمامي" حينما أسس زاوية الحمامي في منطقة معالة ضمن ولاية البويرة خلال عام 1874م من أجل السهر على إحياء زوايا الطريقة الرحمانية في سهل متيجة ومنطقة الزواوة تحت إشراف زاوية الهامل.
وكان الإمام "محمد بوسحاقي" المدعو "موح واعلي"، الذي نجا من الإبادة خلال هجوم معركة ثنية بني عائشة الثانية خلال سنة 1844م، قد تعلم القرآن والفقه والعلوم الإسلامية الأخرى ليصير إماما يشغل دور مفتي في القبائل المنخفضة، ومقدما للطريقة الرحمانية، حول عرش آيث عيشة.
وقد أعانه في ذلك ابنه البكر علي بوسحاقي الذي صار بدوره "مقدما صوفيا" لمنهج "الطريقة الرحمانية" في "منطقة القبائل"، وانطلق "علي بوسحاقي" في الإشعاع الفقهي والتربوي والوطني في جبال الخشنة وما جاورها بلا كلل.
أعاد بناء "زاوية سيدي بوسحاقي" خلال عام 1890م مع توسعتها، وذلك بعد أن تم هدمها من طرف الاحتلال الفرنسي للجزائر خلال سنة 1844م.
وتم استدعاء مهندس معماري فرنسي ليقوم بتصميم هذا المعلم الإسلامي في "قرية ثالة أوفلا" المتكون من قبو به بئر اسمه "الجب"، وقاعة صلاة فسيحة، وغرف لتدريس البنين والبنات، بالإضافة إلى مساكن مدرسي القرآن والعلوم الشرعية.
وكان من بين الأئمة الذين تم استقدامهم لمؤازة "المقدم علي بوسحاقي" في تعليمه كل من "أرزقي واقنوني" و"ساعد مولاي".
أثناء ذلك، قام "المقدم علي بوسحاقي" بإرسال أبنائه كلهم إلى مختلف الزوايا في الجزائر من أجل الاستزادة من العلوم والنهوض بالروحانية الوطنية في منطقة القبائل التي شهدت اكتساحا استيطانيا أوروبيا.
وكان من بينهم ابنه البكر "محمد بوسحاقي" (1876-1950) الذي نال باعا واسعا من التكوين قبل عودته لتأسيس "زاوية آيت حمادوش" في جبال سوق الحد مدعوما بعائلة دريش ومعاضيدها.
كما نال ابنه الآخر "إبراهيم بوسحاقي" (1908-1996) نصيبه من العلوم والفيوضات عبر مساره التكويني الذي أهله للالتحاق في قصبة الجزائر بمسجد سفير.
هدم الزاوية في 1957م
كان اندلاع ثورة التحرير الجزائرية في 1 نوفمبر 1954م تتويجا وتكليلا لجهود رواد الإصلاح من أمثال "المقدم علي بوسحاقي" من أجل استنهاض الهمم لإنهاء الاحتلال الفرنسي للجزائر.
ذلك أن الزوايا في الجزائر مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تأبطت خيرا حينما كرست جهودها بعد انتكاسة مقاومة الشيخ المقراني في 1871م ليتم انتظار 83 عاما قبل استجماع العناصر الموضوعية الثقافية والحركية الكفيلة بإشعال ثورة عارمة لتحرير البلاد الجزائرية.
وكان تأطير الطريقة الرحمانية روحيا وتربويا واجتماعيا لمنطقة القبائل وما حولها كفيلا بدعم الجهد التحرري بعد 1000 شهر من الانتظار الصبور والدؤوب منذ 1871م.
فتم الزج بكل العدد والعدة والعتاد لدى قرى جبال الخشنة في أتون الحرب التحريرية، ولم تتخلف قرى "الثنية" عن الركب، أين كان حُفَّاظُ القرآن والأئمة المجازون في طليعة الضبط الشرعي للثورة حفاظا على نقاوتها الفكرية والأخلاقية وعدم انحرافها وشططها.
وإذا كان "الحاج علي المقدم" متقدما في السن عند اندلاع شرارة التحرير بعمر ناهز 99 عاما، إلا أن أبناءه وأحفاده وعشيرته وطلبته كانوا عناصر محورية في الهيكل التنظيمي والتنفيذي للثورة إلى غاية الاستقلال الوطني.
كان حفيده "المجاهد يحي بوسحاقي" (1935-1960) أحد القادة البارزين في "الولاية الرابعة التاريخية" قبل استشهاده في يوم 28 ديسمبر 1960م مع جنود كتيبته في "قرية السواكرية" قرب مفتاح في متيجة، أين كانت هذه الكتيبة تحضر لهجوم مباغت ومتزامن مع احتفالات الأوروبيين ببداية السنة الميلادية.
وكان ابنه "الإمام إبراهيم بوسحاقي" (1908-1996)، مع ثلة من أئمة مدينة الجزائر، ذا دور مهم أثناء معركة الجزائر التي اندلعت مباشرة بعد انعقاد مؤتمر الصومام.
أما أحفاده من ابنه البكر "الإمام محمد بوسحاقي" (1876-1950) الذي كان مشرفا على "زاوية آيت حمادوش" في جبال سوق الحد، فقد كانوا قضاة شرعيين في صفوف المجاهدين وتأطير الثوار في الجبال والمدن.
كما كان حفيده "الإمام الطيب بوسحاقي" (1925-1997) قاضيا شرعيا في جبال سوق الحد، في حين كان أخوه "الإمام محمد بوسحاقي" (1931-2003) قاضيا شرعيا في جبال تيجلابين، في حين توزع أخواهم الإمامان "عُمر بوسحاقي" و"أحمد بوسحاقي" في مناطق أخرى.
وبالتزامن مع معركة الجزائر، اكتسح الجيش الفرنسي مرتفعات "قرى بني عائشة" وقام بتدميرها وتهجير سكانها إلى المحتشدات حول المستوطنات الأوروبية ابتداء خريف 1956م مع تكثيف البطش خلال شتاء 1957م حيث صعدت المدفعية الفرنسية إلى غاية "قرية ثالة أوفلا" ودمرت هناك "زاوية سيدي بوسحاقي" مما أدى إلى استشهاد مجاهدين ردما تحت الأنقاض، كانوا مختبئين داخل قبوها في "الجب" قرب "البئر".
وتم اقتياد الشيخ "عبد الرحمان بوسحاقي" (1883-1985)، الذي كان بطلا في الحرب العالمية الأولى، بطريقة مهينة من طرف جنود الاحتلال الفرنسي للجزائر، مع إخلاء كل القرية من شيوخها ونسائها وأطفالها نحو المحتشدات.
تم إيواء "الحاج المقدم علي بوسحاقي" لدى أحد أقاربه في الثنية في ظروف مزرية، وتم غلق مقهى أخيه محمد الصغير بوسحاقي بعد قيام "المجاهد بوزيد بوسحاقي" بتفجير مقر "بريد ثنية بني عائشة" مع خليته الثورية، واضطر "المجاهد بوعلام بوسحاقي" إلى تغيير منطقة النشاط نحو مدينة الجزائر ثم مناطق أخرى إلى غاية الاستقلال الوطني.
وما لبث أخوه الحاج محمد الصغير بوسحاقي أن توفي في ظروف مأساوية خلال سنة 1959م عن عمر ناهز 90 عاما في ظل انتقام "إدارة الاحتلال الفرنسي" من "عائلة بوسحاقي" وعشيرتها وفضائها العيشاوي في جبال الخشنة.
وبعد أن تم تدمير قرى "ثالة أوفلا (الصومعة)" و"أمغلدن" و"ثابراهيمث" و"إيقدارن" مع القرى الأخرى في جبال الثنية وسوق الحد، ارتفع عدد الشهداء إلى حوالي ألف شهيد بما مثل آنذاك جريمة ضد الإنسانية وإبادة جماعية بأتم معنى الكلمات.
فتشردت العائلات والعشائر العيشاوية في مدن سهل متيجة إلى غاية الاستقلال الوطني حيث عاد البعض منها إلى الثنية وسوق الحد، إلا أن الأغلبية استوطنت المدن الكبرى وعلى رأسها مدينة الجزائر العاصمة.
ولقد أطال الله -عز وجل- في عمر "الحاج علي المقدم" إلى غاية انعقاد اتفاقيات إيفيان التي انجر عنها وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962م، فسارع "المقدم الرحماني" إلى إعطاء التزكية لدحمان دريش ليكون ممثلا عن منطقة "جبال الخشنة" في الهيئة التنفيذية المؤقتة برئاسة عبد الرحمان فارس في مدينة بومرداس.
وتوجه "الحاج علي بوسحاقي" في صبيحة يوم 1 جويلية 1962م إلى مركز الاقتراع في مدينة الثنية بصحبة ابنه "الحاج رابح بوسحاقي" من أجل الإدلاء بصوته في استفتاء تقرير مصير الجزائر عن عمر ناهز 107 أعوام.
وخرجت الصحف في اليوم الموالي بمقالات تتحدث عن "عميد المنتخِبين الجزائريين" (بالفرنسية: Doyen des votants Algériens) المتمثل في "الشيخ علي بوسحاقي" الذي عايش وهو شاب يافع قدومَ المستوطنين الفرنسيين لاحتلال منطقته الزواوية في 1872م، وعاين وهو شيخ مغادرتَهم بعد 90 سنة من الاحتلال الظالم.
إلا أن "زاوية سيدي بوسحاقي" بقيت مهدومة بعد استقلال الجزائر بسبب هجرة أغلب سكان قرى جبال الخشنة نحو مدينة الجزائر وضاحيتها في ولاية بومرداس الحالية. ق/و