من واشنطن: محمود بلحيمر
طلاق مفاجئ تلته سريعا معركةٌ كلامية حادة بين أقوى رجل سياسي في العالم، الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وحليفه بالأمس القريب، أغنى رجل في العالم، إيلون ماسك. السجال المفاجئ بين الرجلين رسّم انهيار حلف مالي-سياسي تشكل قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية لشهر نوفمبر 2024، وفتح الباب لتداعيات جديدة مرشحة لتطال الامبراطورية المالية لإيلون ماسك، وبالتأكيد سيمتد تأثيرها إلى المشهد السياسي الأميركي، حيث تجري معركة سياسية غير مسبوقة، رهانُها تعديل في التوجهات السياسية والاقتصادية للقوة الكبرى في العالم.
ترامب هو الرجل السياسي الأقوى في العالم، ويملك نفوذ الحكومة الفدرالية الأميركية، لاسيما وهو الذي يميل لاستخدام هذا النفوذ مثل الزعماء الأقوياء في الأنظمة الديكتاتورية. وماسك أكبر أثرياء العالم، ويملك أقوى منصة إجتماعية تُعتبر مكبر الصوت الأكثر نفوذا وتأثيرا على توجهات الرأي العام الأميركي والعالمي. واندلاع الحرب بين الرجلين لن تكون حدثا عابرا.
غادر إيلون ماسك رسميا منصبه في البيت الأبيض على رأس ما يُعرف بوزارة الكفاءة الحكومية "DOG"، حيث قضى 129 يوماً مثيراً للجدل، قاد خلالها حملةً لخفض الإنفاق الحكومي. كان كل شيء سمن على عسل؛ شكر ماسك ترامب على الثقة، وشكره ترامب بدوره على ما "أنجزه" وقال ترامب: "إن ماسك لن يغادر أبداً، سيبقى دائماً معنا، ويواصل دعمه لنا". وبعد يوم واحد اندلعت دراما غير مسبوقة عاشها العالم على منصات التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار، بدأت بتغريدات لماسك انتقد فيها مصادقة مجلس النواب الأميركي على مشروع قانون الانفاق، وتطور الأمر بسرعة إلى حد زعم ماسك أن ترامب "متورط" في ملفات جيفري إبستين، حيث كتب على منصته "إكس": "حان وقت القنبلة الكبرى: ترامب مدرج في ملفات إبستين، وهذا هو السبب الحقيقي لعدم نشرها، وأتمنى لك يوماً سعيداً يا دونالد ترامب"، وأضاف في منشور لاحق: "احتفظ بهذا المنشور للمستقبل. الحقيقة ستظهر."
وجيفري إبستين هو رجل أعمال أميركي مثير للجدل، متهم بإدارة شبكة للاتجار بالجنس والاستغلال الجنسي للقاصرات وله علاقات قوية بالمشاهير من رجال المال والسياسة. توفي منتحرا في زنزانته بإحدى سجون نيويورك في عام 2019. وهناك مزاعم تشير إلى أنه تعرض للتصفية مخافة كشف متورطين من فئة السياسيين والمشاهير الكبار.
صدمة في معسكر "ماغا" المحافظ
نحن أمام صدمة يتعرض لها معسكر "MAGA" "التي تعني جعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، وهي تحدي لترامب في وقت يسعى فيه لتمرير أجندته عبر الكونغرس من خلال ما سمّاه بقانون إنفاق "واحد كبير وجميل"، الذي يواجه معارضة ليس فقط من طرف خصومه الديمقراطيين لكن أيضا من مشرّعين جمهوريين. وزيادة على أن هذه الصدمة قد تجعل معسكر ترامب يدفع ثمنا سياسيا باهضا فإن الطلاق يعني خسارة دعم أغنى رجل في العالم ومالك أقوى منصة للتواصل الاجتماعي في المواعيد الانتخابية القادمة.
والواضح أن إيلون ماسك، الذي استثمر 290 مليون دولار في دعم الحملة الانتخابية لترامب يريد أن يقبض المقابل سريعا، وأبدى غضبه من السياسة التي ينتهجها ترامب والتي يرى أنها لا تنسجم مع مصالحه. ومن الواضح أن أغنى رجل في العالم لا يوقع شيكات فقط لأجل صورة مع ترامب في البيت الأبيض وإنما بمقابل، تماما كما يتصرف رجل أعمال يستثمر أمواله في مشروع وينتظر جني أقصى ما يمكن من الأرباح، وحاله هو حال المانحين الكبار الذين يشترون السياسيين الأميركيين في الحملات الانتخابية مقابل تمريرهم سياسات وبرامج تحمي مصالحهم، ولو كانت على حساب مصالح عامة الأميركيين، أي شراء الانتخابات، كما يقول السيناتور عن ولاية فيرمونت بيرني ساندرس. إنها أزمة الديمقراطية الأميركية التي لم تعد سرا. ولم يخف ماسك هذه الحقيقة عندما كتب ضمن سلسلة تغريداته ضد ترامب أن الديمقراطيين كانوا سينتصرون في انتخابات العام الماضي لولا مساعدته لترامب. وقال مخاطباً ترامب "يا له من جحود".
لماذا غضب ماسك على حليفة السابق ترامب؟
تأججَ الخلافُ بين ترامب وماسك سببُه مضمون مشروع قانون الانفاق الحكومي. ماسك وصف المشروع بـ"البشع والمثير للاشمئزاز". وكتب على منصته "إكس" أن مشروع القانون سيزيد عجز الميزانية الهائل أصلا إلى 2.5 تريليون دولار، وسيثقل كاهل المواطنين الأميركيين بديون لا يمكن تحملها" وأضاف إنه ".. يُريد تقليص الدين العام، الذي يُمثل تهديداً وجودياً للبلاد..".
غير أن ترامب أرجع غضب ماسك إلى إلغاء الدعم الحكومي للسيارات الكهربائية الذي تستفيذ منه شركة تسلا لمالكها ماسك، إذ تقدمُ الحكومةُ الفدرالية تحفيزا ضريبيا للمشترين بقيمة 7500 دولار، كما تموّل إنشاء محطات الشحن الكهربائي عبر البلاد، بهدف تشجيع التحول نحو الطاقة النظيفة. غير أن إدارة ترامب لا تريد الاستمرار في هذا التوجه بهدف تقليص العجز في الموازنة الحكومية.
نقطة خلاف أخرى بين ترامب وماسك تتعلق برئاسة وكالة الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء "ناسا". ماسك أراد أن يُعين ترامب حليفَه الملياردير جاريد إيزاكمان لقيادة ناسا، لكن ترامب اعترض على ذلك، ومن بين المبررات التي قدمها أن الشخص المقترح كان ديمقراطيا.. ومعلوم أن ماسك يملك عقودا بمليارات الدولارت مع الحكومة الفدرالية؛ إذ نقلت الصحافة الأميركية أن شركة "سبايس إكس"، التي تنشط في مجال الفضاء حصلت على عقود بقيمة 22 مليار دولار خلال العام الماضي، منها 15 مليار دولار مع وكالة ناسا و7 مع وزارة الدفاع الأميركية. ترامب هدد بوقف العقود مع شركات إيلون ماسك عقابا له على "تمرده"، وكتب في تغريدة على "أكس" أن"أسهل طريقة لتوفير مليارات الدولارات في ميزانيتنا هي وقف الدعم الحكومي لإيلون وعقوده. لطالما فوجئتُ بأن بايدن لم يفعل ذلك". وردّ ماسك بقوله إنه بدأ بتسريع عملية تفكيك مركبته الفضائية "دراغون"، التي تعتمد عليها الولايات المتحدة لنقل رواد الفضاء الأمريكيين والإمدادات إلى محطة الفضاء الدولية.
وقد تداولت وسائل إعلام أن ماسك أراد تمديد عمله في البيت الأبيض، لكن طلبه قوبل بالرفض. كما أنه فشل في إقناع إدارة الطيران الفيدرالية بشراء أقماره الصناعية "ستارلينك" لمراقبة حركة الطيران، وهو مايفسر غضبه الهيستيري الذي ترجمه بتغريدات هجومية ضد ترامب.
شرخ عميق في معسكر المحافظين
ما هو واضح أن حلف ترامب-ماسك انهار بعد أقل من عام من تشكّله. لقد تمكّن ترامب والجمهوريون من حشد الدعم لحركة "ماغا" وحقق ترامب ثأره بتكبيد الديمقراطيين هزيمة انتخابية مذلة كانت رهانا حاسما له. في حين كان ماسك يطمح في مزيد من الثروة والنفوذ. الآن هناك شرخ كبير في معسكر اليمين و"ماغا" قد يمتد إلى القواعد طالما أن هناك من يدعم رؤية ماسك بشأن خفض الانفاق الحكومي وهناك من يعارضه. ولتوضيح الصورة نشير إلى ما صدر عن ستيف بانون، المستشار السابق لترمب وأحد أبرز زعماء اليمين الداعم لترامب، الذي نصح الرئيس بإلغاء جميع العقود الفيدرالية الممنوحة لماسك وفتح عدة تحقيقات ضده، بما في ذلك بشأن وضعه كمهاجر، وقال إنه يجب فتح تحقيق رسمي في وضعه القانوني كمهاجر، "لأنني أعتقد بشدة أنه مهاجر غير شرعي، ويجب ترحيله من البلاد على الفور". وفق تعبير بانون.
واقع الحال أن معسكر ترامب والمحافظين بصدد خسارة انسجامه وتماسكه إضافة إلى الممول الرئيسي ضمن نخبة كبار المانحين، يجب ألا ننسى أن المال هو عصب الحرب في الانتخابات الأميركية. وفي المقابل سيسخر الملياردير الأول في العالم الكثير من الأموال، لاسيما تلك المرتبطة بعقوده مع الحكومة الفدرالية. صحيفة "يوأس آي توداي" نقلت عن مسؤول أميركيي كبير قوله: "واضح مما شهدناه في الأشهر القليلة الماضية أنه إذا اعتبرك ترامب عدوًا له، فسيحاول استخدام كل أدوات الحكومة التي بحوزته ضدك". ماسك خسر الكثير منذ التحاقه بفريق ترامب، وبعد ساعات من المعركة الكلامية مع ترامب الخميس انخفضت قيمة سهم شركة "تسلا" بنحو 15 في المائة، وتكبدت الشركة خسارة بنحو 100 مليار دولار خلال ساعات قليلة.
وفي هذه الأثناء يتفرج الديمقراطيون بدهشة وبهجة كبيرة في آن واحد وهم يرون المعسكر الجمهوري يتقاتل، يخربون بيوتهم بأيديهم! وهو ما يعني أن معسكر المحافظين سقط في هشاشة غير منتظرة، بحيث أن غياب ماسك ودعمه المالي سيحدث الفارق في معارك انتخابية قادمة.
م. ب