الحراك الإخباري - كتاب عرّبه محمد بن عبد الكريم الجزائري: "المرآة" لحمدان خوجة
إعلان
إعلان

كتاب عرّبه محمد بن عبد الكريم الجزائري: "المرآة" لحمدان خوجة

منذ 3 سنوات|قراءة في كتاب

يعد هذا الكتاب مرجعا تاريخيا فريدا من نوعه، فهو يقدم لمحة تاريخية و إحصائية على إيّالة الجزائر مع دخول الاحتلال الفرنسي لها في 1830، ومؤلفه هو حمدان بن عثمان خوجة الجزائري، الذي كان في مقدمة رجال الثقافة المعاصرين له، و لسنا بمُغالين اذا ما وضعنا هذا الكتاب في طليعة النتاج الثقافي آنذاك، فهو نبراس للمؤرخ، رائد للسياسي، مزوّد للمشرع، مرشد للقانوني ومفيد جدا لعالم الاجتماع، ويكفي أنه احتوى أفكارا سبقت عصر كاتبه بقرن ويزيد، على حد تعبير العالم الجليل الدكتور محمد بن عبد الكريم الجزائري، الذي عرّب الكتاب وقدم له وعلق عليه وفهْرسه.
ويوضح بن عبد الكريم، رحمه الله، مسألة تاريخية علمية مهمة في مقدمة الطبعة المميزة لدار الوعي الجزائرية، حيث يؤكد أنّ الكتاب ألّفه صاحبه بالعربية في الأصل، قبل أن يترجمه إلى الفرنسية صديقه ورفيقه في السراء والضراء حسّونة دغيس، وزير الخارجية للحكومة الطرابلسية وقتها (الليبية حاليا).
وقال بن عبد الكريم إن فقدان النص العربي لكتاب "المرآة" قد أثار الشكوك ودفع ببعض المؤرخين الفرنجة إلى نكران كتابة هذا الكتاب باللغة العربية مباشرة، زاعمين أن نصوصه جاءت من لدُن رجل يتكلم الفرنسية ولا يقرأها، وهذا زعم باطل وفق صفه.
وعن دوافع التأليف، أكد بن عبد الكريم أنها كانت لسببين اثنين هما:
أحدهما دافع داخلي نفسي قد تمخض عن إحساس رهيف وشعور إنساني وإخلاص للوطن وحب في العدالة وتذمر من الظلم والجور اللذين كانا يقاسيهما الجزائريون على يد السلطة الفرنسية على مرأى ومسمع من سي حمدان المخلص لوطنه وأبناء ملته في الحل والترحال.
وثاني الدوافع خارجي، وهو إلحاح بعض أصدقائه عليه أن يكشف عما هو جارٍ في الجزائر من أحداث يومية ووقائع حربية.
لذلك كان هدف الكتاب الرئيس هي إطلاع الرأي العام الأوروبي، ولا سيما الفرنسي منه، على الأحداث الجارية في الجزائر، وعلى أوضاع سكان هذا القطر المنكوب، واطلاعهم أيضا على معرفة بعض مراحل تاريخه وعوائد أهله وأخلاقهم وطبائعهم التي تأبى الخضوع لمن يخالفهم في الجنس والدين.
كما كان سي حمدان ينوي بتأليفه هذا تنبيه الحكومة الفرنسية إلى المجازر الدموية والأعمال الوحشية التي كانت ترتكب على أيدي السلطة العسكرية في الجزائر من أجل أن تتخذ تلك الحكومة قرارا في هذا الشأن.
إذا كان كتاب المرآة قد عالج مسائل تاريخية وأخرى جغرافية، فإنه لم يفته أيضا أن يتناول في نفس الوقت قضايا اجتماعية ومفاهيم فلسفية مبنية على استخراج المسببات من الأسباب واستنباط المعللات من العلل، وهذه الطريقة قلما نجدها في مؤلفات تاريخية ولاسيما في عصر قد ساد فيه الاضطراب وكبّل أهله الجمود وطغى عليهم التقليد الأعمى في التفكير والتعبير، مثلما قال بن عبد الكريم.
ويمكن أن نجمل محتوى هذا الكتاب في أربعة عناصر أساسية وهي كالآتي:
العنصر الأول: (المقدمة) ومضمونها الإسهاب في التشكي والتبرم من الجور والطغيان، ومناجاة العدالة الإنسانية والحقوق البشرية: فردية واجتماعية. ثم مقارنة الشعب الجزائري البائس بغيره من سائر شعوب العالم في الحظوظ الدنيوية والأقدار السماوية. ثم يكشف عن الفوارق الشاسعة التي بين أبناء وطنه الرازحين تحت نير الكبت وسياط القهر المستمر والاضطهاد الوحشي، وبين غيرهم من سائر الرعايا الرافلين في أثواب العدالة الاجتماعية وسرابيل الحضارة البشرية. وكل ذلك بأسلوب منطقي، معتمدا الواقع الملموس والاستنتاج المنطق فيما كان وسيكون.
العنصر الثاني: قسم التقويم والاحصاء لمنتوجات البلاد الحيوانية والنباتية والمعدنية وتبْيين مواقعها الطبيعية وإحصاء نسمات سكانها وتعداد أجنساهم وذكر عوائدهم وأخلاقهم ، وهلم جرا...
العنصر الثالث: قسم التاريخ المفعم بالحقائق التاريخية والجغرافية، وفي هذا العنصر قد بسط سي حمدان حديثه عن الحكم التركي وأجهزة إدارته. وقد حبذ نظامه، وبرأ الحكام المتقدمين مما ارتكبه الحكام المتأخرون الذين أهملوا قوانين أولائك المتقدمين المسطر في دستورهم. ثم تعرض لذكر غزوات الفرنسيين للجزائر واحتلالهم لها، كما تعرض – أيضا- لنظام حكام المحتلين طوال ثلاث سنوات ونصف سنة، وقد حمل على بعض الحكام والقوّاد والولاة ولاسيما القائد كلوزيل، الذي قد فضح أعماله وشوه سمعته في الأوساط الفرنسية خصوصا والأوربية عامة، ولم يفت سي حمدان أن يتعرض لذكر دسائس اليهود ومكائدهم وأدوارهم الشيطانية، التي قد لعبوها في الجزائر أثناء حكم الأتراك، وفي أوائل الاحتلال الفرنسي.
العنصر الرابع: قسم الوثائق، وهي عبارة عن رسائل وشكاوى وعرائض مطولة في مختلف الأغراض الخاصة والعامة، منها ما هو بقلم سي حمدان، ومنها ما هو بقلم غيره، من ملوك ووزراء وقواد وأطباء ومحامون وهلم جرا...
وباختصار فإن كتاب المرآة مكتظ بالأدلة القاطعة والحجج الدامغة والبراهين الساطعة والوثائق الأمينة.
ويغلب على أسلوب سي حمدان الصراحة التامة، واللهجة الشديدة والحجة البالغة، والمنطق السليم، وكثيرا ما يطعّم كلامه بحكمٍ وأمثالٍ يجدر بها أن تبقى رائدة عبر الأجيال لمن ألقى المسع وتدبر مثل قوله، عندما يحتج على السلطة الفرنسية التي هدمت أملاك الجزائريين ثم أرغمت أصحاب تلك الأملاك على دفع أجرة عمليات التهديم وهلم جرا...
أما المؤلف حمدان خوجة فهو ينتمي إلى عائلة جزائرية عريقة كانت في العاصمة، حيث كان والده عثمان فقيها وإداريا، يشغل منصب الأمين العام للإيالة، يشرف على حسابات الميزانية وعلى السجلات التي تشمل أسماء ورتب ورواتب الانكشارية. أما خاله الحاج محمد فكان أمينا للسكة قبل الاحتلال الفرنسي.

ولد حمدان سنة 1773، حفظ القرآن وتعلم بعض العلوم الدينية على يد والده، ثم دخل المرحلة الابتدائية التي نجح فيها بتفوق فأرسله والده مكافأة له مع خاله في رحلة إلى اسطنبول سنة 1784م، وكان خاله في مهمة حمل الهدايا إلى السلطان العثماني، فكان لهذه الرحلة دور كبير في نفسية الطفل الذي لم يتجاوز الحادية عشرة، حيث فتحت له أبوابا للتطلع على كل ما هو أسمى.

بعد عودته من إسطنبول انتقل إلى المرحلة العليا حيث تلقى فيها علم الأصول والفلسفة وعلوم عصره، ومنها الطب الذي كتب في بعض جوانبه كالحديث عن العدوى ومسبباتها في كتابه ”إتحاف المنصفين والأدباء في الاحتراس من الوباء”.

بعد وفاة والده شغل مكانه كمدرس للعلوم الدينية لمدة قصيرة ثم مارس التجارة مع خاله ونجح فيها، فأصبح من أغنياء الجزائر، وهو ما فتح له المجال للقيام بعدة رحلات إلى أوروبا، وبلاد المشرق والقسطنطينية، ومنها استطاع تعلم عدة لغات كالفرنسية والإنجليزية مما ساعده على التفتح وتوسيع معالمه والتعرف على العادات والتقاليد، والأنظمة السياسية السائدة في تلك البلدان. وأثناء الحملة العسكرية الفرنسية على الجزائر ساهم كغيره من الجزائريين في الدفاع عن بلاده ولكن بطريقته الخاصة.

بعد الاحتلال الفرنسي اشتغل كعضو في بلدية الجزائر، وفيها حاول الحفاظ على ما تبقى للجزائريين من ممتلكات، حيث رفض تسليم عدة مساجد للفرنسيين الذين أرادوا تدميرها بحجة إقامة مؤسسات وطرق عمومية بدلها، كما شارك في لجنة التعويضات الفرنسية لتعويض الأشخاص الذين هدمت ممتلكاتهم لفائدة المصلحة العامة كما يقول الاستعمار الفرنسي، وفيها بذل حمدان جهودا لخدمة إخوانه الجزائريين، ولكن الاستعمار الفرنسي تفطن لنواياه ونوايا الأعضاء الجزائريين المشاركين في هذه اللجنة فحلها، وأغلق باب التعويضات.

بعد ذلك شارك خوجة كوسيط بين أحمد باي والفرنسيين، وأرسل إلى الجنرال سولت مذكرة يصف فيها التجاوزات التي قام بها الفرنسيون في الجزائر، فكان من نتائج هذه المذكرة إنشاء اللجنة الإفريقية في 07 جويلية 1833 للبحث عن حقيقة الأوضاع في الجزائر.

و في باريس راسل السلطان العثماني وناشده أن يتدخل لإنقاذ الشعب الجزائري قائلا: “إن المسلمين الذين استشهدوا ودفنوا في هذه التربة سوف يسألونكم يوم الحساب لماذا تخليتم عنهم”.

وظل حمدان خوجة يناضل بشكل قوي ليبين عيوب الاستعمار، ولما رأى أن جنرالات فرنسا مصرون على المضي في مشروعهم الاستعماري رحل إلى فرنسا في 1833، وواصل هناك جهوده للدفاع عن الجزائر من خلال الاتصال بالشخصيات الفرنسية التي ظن أنها يمكن أن تدعم قضيته، لكنه في النهاية رأى أن ذلك غير مجد فغادر باريس نحو القسطنطينية في 1836 وتوفي هناك ما بين 1840-1845.
بقيت الإشارة إلى أن هذا الكتاب القيم والفذ في زمانه، كمرجع تاريخي نفيس، متوفر في طبعة أنيقة ومجلدة لدى دار الوعي الجزائرية ضمن إصدارها لمجموعة الأعمال الكاملة للدكتور بن عبد الكريم، وما على الراغبين فيه من باحثين وطلبة وقراء مهتمين سوى التواصل معها عبر موقعها الإلكتروني أو صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك أو بواسطة موزعيها المعتمدين.

تاريخ Jun 3, 2020