الحراك الإخباري - كتاب " مذكرات شاهد للقرن" لمالك بن نبي
إعلان
إعلان

كتاب " مذكرات شاهد للقرن" لمالك بن نبي

منذ 3 سنوات|قراءة في كتاب

 يُروى بتواتر عن مفكّر الإسلام وفيلسوف الحضارة في القرن العشرين، مالك بن نبي، رحمه الله، قوله لزوجته في آخر حياته "سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس"، فقد عاش محاصرا في عصره، ومضايقا في أفكاره، غير أنه كان واثقا تماما أنها سَتُفَعَّلُ في يوم ما، وها قد صدقت نبوءة الرجل العملاق اليوم بعودة النخب الإسلامية في مختلف المستويات إلى مُدارسة رؤاه التي سبق بها زمانه قبل 75 عاما، وجعلت قيادات دول من قيمها الفلسفية والعملية مرتكزات لنهضتها الجديدة!
لقد كان بن نبي يؤمن أنّ "المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان، فالإنسان هو الهدف و نقطة البدء في التغيير والبناء "، لذلك كرس حياته للبحث في مشكلات الحضارة، وبذل جهدًا كبيرًا لفهم مقوماتها.
ودفعًا لاهتمام القرّاء بمطالعة الكتاب في ظل الحجر الصحّي هذه الأيام، وتعميما للفائدة المعرفية الراقية التي حملها فكره الإسلامي النيّر، فقد ارتأى "الحراك الإخباري"، أن يعود إلى بسط تصورات الرجل الأساسيّة، من خلال عرض لأبرز مؤلفاته العالميّة ، واليوم سيكون موعدنا مع كتاب " مذكرات شاهد للقرن".
يتضمن هذا الكتاب قسمين ، يتناول الأول مرحلة طفولة المؤلف مالك بن نبي 1905-1930 ، ويتضمن الثاني مرحلة دراسيته في باريس 1930-1939 . وينقل إلينا شهادة بصر وبصيرة بالأحداث ، لجزائري خلف ستار، يجسد رؤيته الفكرية ، وقد امتد به عمق الحضارة الإسلامية إلى حدود الحضارة الغربية الحديثة ، فكان نقطة اتصال وتحويل لأجيال حضارة مندفعة تجتاج ما أمامها ، وحضارة أسلمت مقاليدها للتاريخ ، وغدت أجيالها في مهب الريح. ويرى في الجزائر التي استعمرها الفرنسيون عينة من عينات العالم الإسلامي ، الذي استقال من مهمته التاريخية ، وغدا تراثه أشلاء مبعثرة لا تصمد أمام طوفان الحضارة الغربية الحديثة ، وما ارسته من مصطلحات ومفاهيم تزري بمسيرة الإنسانية ، وهي تنشر ثقافتها وجيوشها ، في أرجاء العالم الإسلامي المتخلف والمغلوب منذ باية هذا القرن. ويبرز القيم الأساسية المجيدة التي ورثها رجل الفطرة من الأسلاف ، وتهافت المثقفين المنغمسين في ثقافة الغرب ، المنقلبين في حركتهم التقدمية إلى الوراء ، والمتخذين من السياسة سبيلا إلى قيادة تسير نحو العدم لافتقادهم سبيل الفعالية في المبادرة والاتجاه. ويكشف لنا هاجس المؤلف العميق في الحضارة ومشكلاتها ، ويضع الحلول لها ، ويبلغ شهادته في منعطفات التاريخ برؤية فكرية وروحية ، واضحة المعالم ، تشعل شرارة الإقلاع والنهوض.
وجاء في تصدير "مذكرات شاهد للقرن" أنه كتاب أخرجه فيلسوفنا مالك بن نبي عام 1966 بالفرنسية، وطبع في الجزائر. وكان قد أودع عمر مسقاوي نسخة على الآلة الكاتبة في ذلك التاريخ، رغبة منه في إصداره مترجماً باللغة العربية.

وفي بداية السبعينات صدر الجزء الثاني من (مذكرات شاهد لقرن) وهو الجزء الذي يتحدث عن مرحلة الدراسة في باريس ابتداء من عام 1930، وقد آثر الأستاذ مالك - رحمه الله - أن يترجمه بنفسه إلى العربية، حين آنس في الترجمة الأولى شيئاً من حواجز الصياغة تحول بين القارئ وإحساس المؤلف، الذي أودعه في كتابه وهو يصوغه بالفرنسية.
ومذكرات مالك بن نبي، مذكرات شاهد يتحدث إلينا خلف ستار، وهو يحاول أن ينقل إلينا تبصّره بالأحداث؛ وما هذه التفاصيل التي يقصها علينا إلا ليجسد رؤيته الفكرية عبرها. فشاهدنا شاهد بصر وبصيرة معاً.
وهي بصيرة صاغتها أحاسيس جزائري امتد به عمق الحضارة الإسلامية إلى حدود الحضارة الغربية الحديثة، فكان نقطة اتصال وتحول كما يقول في بداية شهادته.
فأجيال الحضارة تتناقل دائماً رسالة سرية ذات رموز، ويحقّ لكل جيل أن يقرأ هذه الرسالة قراءة تختلف عن الجيل السابق، لأن لكل جيل مصطلحاً خاصاً به يفك رموز تلك الرسالة.
هكذا يقول بن نبي في شهادته، وكأنما يريد أن يمنحنا من جديد مصطلحات رموز هذه الرسالة، بعد أن افتقدنا هذا المصطلح، وباتت رسالة حضارتنا رمزاً لا نستطيع له إدراكاً يلج في أعماق جيلنا المعاصر.
مالك بن نبي يحدثنا عن حدود التلاقي بين حضارة مندفعة تجتاح ما أمامها، وحضارة أسلمت مقاليدها للتاريخ وغدت أجيالها في مهب الريح.
كذلك كانت الجزائر وقد اجتاحها الاستعمار الفرنسي. لكن الجزائر عينة من عينات ذلك العالم الإسلامي الذي استقال من مهمته التاريخية، وغدت بقية التراث أشلاء مبعثرة هنا وهناك، لا تصمد أمام طوفان الحضارة الغربية وحجافلها المنتصرة.

هكذا ينقل إلينا مالك بن نبي صوراً من شهادته، إذا صدقت على أجيال الجزائريين من أبناء جيله، فهي صادقة أيضاً على أجيال العالم الإسلامي، والعالم المتخلف بأجمعه منذ بداية هذا القرن.

ولذا فهو شاهد أحداث هذا القرن فيما يروي.

والشهادة هذه ليست شهادة لمعاناة مجتمع مغلوب على أمره، وهي ليست شهادة على مجتمع لا يدرك لدفاعه فعالية الوسائل فحسب، بل إنها أيضاً شهادة على ما أرست حضارة الغرب الحديثة من مصطلحات ومفاهيم ومنجزات، تزري بمسيرة الإنسانية وهي تنشر ثقافتها وجيوشها.

فمالك بن نبي - وهو يروي أدق التفاصيل - لا يغفل عن إبراز القيم الأساسية التي ما يزال يحتفظ بها رجل الفطرة، وقد ورثها من أجيال سابقة حفظت التراث والقيم. وهو في الوقت نفسه يطرح أمامنا تهافت مثقفينا، الذين انغمسوا في الثقافة الغربية ومصطلحاتها وواقعها، فانقلبوا في حركتهم التقدمية إلى الوراء، اتخذوا من السياسة سبيلاً إلى قيادة تسير نحو العدم، لأنهم افتقدوا في ذلك الصخب الذي عانته مجتمعاتنا الإسلامية منذ بداية هذا القرن، سبل الفعالية في المبادرة والاتجاه، وهكذا فاتهم قطار التاريخ.

هذا الكتاب يحمل إلينا دفء الأصالة، ويهزّنا حين يروي لنا صفاء الراعي والبدوي ووفاءه للقيم، والتزامه بما استقر في ضميره من تقاليد هي أقرب إلى روح الحضارة وأرسخ في خطا التقدم.

فالذي حمله المثقفون الجزائريون من الجامعات والمعاهد الفرنسية، والذي نقله الاستعمار من الهياكل الإدارية إلى أرض الجزائر، قد أفسد الرؤية وأنقص قيمة الإنسان، وأحل مكان خرافة المرابطي شيخ الطريقة خرافةَ الزعيم، وهكذا تحطمت بمنطق السهولة المبادرات البناءة التي بدأتها حركة الإصلاح بقيادة (بن باديس).

هذا الكتاب يكشف لنا مكونات فكر بن نبي، وهاجسه العميق الذي رافقه طيلة حياته.

إنه هاجس الحضارة ومشكلاتها. وما كان لبن نبي أن يروي لنا شهادته، لولا أنه قد رغب في تأصيل الأساس الفكري لنهضتنا، وآثر الحقيقة والتزم جانب الصدق والكفاح حتى أسلم الروح، لم تفتر العزيمة في بيان ولم يهن له عزم في كشف كل زيف، تروج بضاعته في أسواق الثقافة ومراكز التوجيه.

إنه شاهد قرن ومبلغ فيه لما شهد. والتبليغ في منعطفات التاريخ رؤية فكرية وروحية معاً. في صيغته وضوح المعالم، وفي حرارته شرارة الإقلاع.

ونشير في الختام أن هذا الكتاب قد نشرته دار الفكر بدمشق في طبعة أنيقة، وهو متوفر حصريّا بالجزائر لدى "دار الوعي"، مثلما لديها "المجموعة الكاملة لأعمال مالك بن نبي" لكل من يرغب في الاستفادة منها، حيث يمكنه التواصل معها عبر حسابها الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي.

تاريخ Apr 29, 2020