الحراك الإخباري - كتاب " المسلم في عالم الاقتصاد " لمالك بن نبي
إعلان
إعلان

كتاب " المسلم في عالم الاقتصاد " لمالك بن نبي

منذ 3 سنوات|قراءة في كتاب


 يُروى بتواتر عن مفكّر الإسلام وفيلسوف الحضارة في القرن العشرين، مالك بن نبي، رحمه الله، قوله لزوجته في آخر حياته "سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس"، فقد عاش محاصرا في عصره، ومضايقا في أفكاره، غير أنه كان واثقا تماما أنها سَتُفَعَّلُ في يوم ما، وها قد صدقت نبوءة الرجل العملاق اليوم بعودة النخب الإسلامية في مختلف المستويات إلى مُدارسة رؤاه التي سبق بها زمانه قبل 75 عاما، وجعلت قيادات دول من قيمها الفلسفية والعملية مرتكزات لنهضتها الجديدة!

لقد كان بن نبي يؤمن أنّ "المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان، فالإنسان هو الهدف و نقطة البدء في التغيير والبناء "، لذلك كرس حياته للبحث في مشكلات الحضارة، وبذل جهدًا كبيرًا لفهم مقوماتها.

ودفعًا لاهتمام القرّاء بمطالعة الكتاب في ظل الحجر الصحّي هذه الأيام، وتعميما للفائدة المعرفية الراقية التي حملها فكره الإسلامي النيّر، فقد ارتأى "الحراك الإخباري"، أن يعود إلى بسط تصورات الرجل الأساسيّة، من خلال عرض لأبرز مؤلفاته العالميّة ، واليوم سيكون موعدنا مع كتاب " المسلم في عالم الاقتصاد ".

ويعدّ الكتاب تجربة مختلفة في عالم لا طالما يوصف بأنه عالم الأرقام والقوانين الرياضية والمعادلات المعقدة، فهنا لا تجد كل ذلك، بل تجد تسليط الضوء على قضايا تكاد تكون مخفية وبعيدة عن نظر و أعين واضعي الخطط والاستراتيجيات الاقتصادية.
يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب، يفصل مالك بن نبي في الباب الأول المشاكل القيمية التي تواجه الأمة الإسلامية والتي رسخها الاستعمار في أذهان أفرادها، حيث أصبح الفرد عبدا تحت إمرة السيد الاستعماري، يعمل من أجل أن يوفر الموارد لأعمال المستعمِر في بلده الأم، وهو ما أدى إلى ظهور أجيال كاملة تعمل من أجل لقمة الطعام، لا من أجل الإبداع كما يفترض أنها خلقت من أجل ذلك ودينها يرسخ تلك القيمة ويشجعها.

بعد ذلك يفصل مالك بن نبي ثنائية المنفعة والحاجة أي الرأسمالية والاشتراكية التي وُضعت فيها الأمة الإسلامية بعد نيل استقلالها السياسي الصوري، فأصبحت تعمل على إلباس أحد المذهبين لباساً إسلاميا رغما عنه، وهو ما أدى إلى نشوء نظريات معيبة لا تصلح للتطبيق على أرض الواقع.
بعد ذلك يدخل مالك بن نبي في تفصيل القيم المترسخة في أفراد الأمة الإسلامية، والتي كان قد سلط عليها ضوء خافتا في بداية الباب الأول، حيث خرج مالك بن نبي بمصطلح الاقتصادانية أو المعاشية، وهو المصطلح الذي يعكس قيمته في الكوادر التي أصبحت تختار العمل من أجل المال لا من أجل الإبداع، وأصبح توفير لقمة العيش يسبق أي جانب آخر، وهو ما خلق كوادر بمسميات وظيفية في جانب ومؤهلات علمية في جانب آخر، وهو ما يعد إثقال للدولة بأفراد في غير مواقعهم المفترضة وقتل للإبداع والتطوير، واستدعى المؤلف هنا أحد المواقف الشخصية حيث كان استقلّ سيارة أجرة في أحد الأيام ومنعا للملل طيلة المسافة قام بالحديث مع السائق عن المشاكل التي تواجه الفرد في العالم الإسلامي، وأخذهم الحديث إلى شقيقه الذي كان قد تخرج في ثمانينات القرن الماضي من كلية الهندسة الزراعية وعند تخرجه كان يأمل في الالتحاق بوظيفة تناسب مؤهله العلمي، إلا أنه فوجئ بتعيينه في وزارة الشباب والرياضة، ما يعني نسيانه لمؤهله الجامعي ووضعه في درج مكتبه كذكرى لا أكثر، إلا أن ذلك الشاب لم يقبل بالوضع الذي أجبر عليه وهاجر إلى ألمانيا الغربية في ذلك الوقت وعمل بها حتى وصل إلى مكانة ما كان ليحلم بها لو استمر في وظيفته التي أرغم عليها، والتي كانت ستتسبب في تحويله إلى كتلة صماء لا فائدة منها، سوى شلّ العملية الاقتصادية كحال كثير من أفراد جيله سواء من سبقوه أو من لحقوه في ذلك الوقت، والشاهد من القصة أن هناك العديد من المؤهلات التي لا يحسن استخدامها في العالم الإسلامي وتهدر في أماكن ليست بأماكنها، وتقتل أيّ أهداف أو طموحات مستقبلية سوى طموح الترقي في السلم الوظيفي المرسوم قسرا.
يعود مالك بن نبي بعد ذلك ليقارن بين التجارب النهضوية في مجال الاقتصاد والتي نجحت في بلدانها وفشلت فشلا ذريعا في عالمنا الإسلامي، وأخذ تجربة الدكتور شاخت وهو عالم اقتصاد ألماني كان سببا في نهوض اقتصاد ألمانيا بعد الحرب العالمية، والذي انتدب ليضع خطة اقتصادية للنهوض باقتصاد إندونيسيا إلا أن تجربته فشلت فشلا ذريعا، وهو ما يعيدنا إلى مصطلح المعادلة الاجتماعية لكل قومية ولكل بلد، فشروط نجاح أي تجربة أن تناسب الوضع الاجتماعي الموجود وتتحرك على أساسه، فوجود الإرادة الحضارية هو أساس أي تقدم اقتصادي قبل الموارد المادية.
في الفصل الأخير يتحدث مالك بن نبي عن معضلة الأدوات لدى العالم الإسلامي والتي تكون سببا في الوصول إلى طريقين لا ثالث لهما، فإما أن نخضع لإرادة الهيمنة الخارجية ومؤسساتها المالية كحال دول الخليج العربي، أو أن نقف في أماكننا بشعارات عنجهية دون خطط واضحة وأدوات مضمونة أو حتى السعي لإيجاد أدوات جديدة تناسب صراعنا مع الهيمنة العالمية.
 يعد هذا البحث من أهم البحوث التي تتحدث عن المشاكل الاقتصادية من وجهة نظر فلسفية وفكرية لا من وجهة نظر تقنية بحتة، وما أحوج العالم الإسلامي اليوم إلى ظهور من يكمل ما قام به مالك بن نبي لنصل إلى ربط ومسك لكافة الخيوط التي تعتبر عائقا يقف في طريق أي تجربة نهضوية في عالمنا الإسلامي.
ونشير في الختام أن هذا الكتاب الذي نشرته دار الفكر بدمشق في طبعة أنيقة، متوفر حصريّا بالجزائر لدى "دار الوعي"، مثلما لديها "المجموعة الكاملة لأعمال مالك بن نبي" لكل من يرغب في الاستفادة منها، حيث يمكنه التواصل معها عبر حسابها الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي.

تاريخ May 3, 2020