من باريس: سهيلة باتو
صحفية و سينمائية
في الجمهورية التي تفخر بكونها مهدّ حقوق الإنسان، يجد ملايين المسلمين أنفسهم اليوم تحت رقابةٍ لا تنقطع.
يُستجلب شكُّ الولاء عليهم، ويُطالَبون بإثبات إخلاصهم، في مزيجٍ متأرجح بين وصمةٍ رفيقةٍ بصمتٍ ثقيل. يستحضر هذا المقال صفحةً منسيةً في التاريخ: سلبُ الجنسية عن يهود الجزائر في عهد فيشي، ليطرح بعد ذلك سؤالًا يؤرّق الضمير: هل قد يأتي اليومُ الذي تُصبح فيه جنسية المسلم المولود هنا مشروطة، كما صار الأمر لليهود قبل ثمانين عامًا؟
مشهد البداية: امرأةٌ تبكي واحتضانٌ صادق
كلُّ شيءٍ بدأ بحضنٍ هادئٍ لكنه عميق. في تجمعٍ أقيم تكريمًا لعبوبكر ضد الإسلاموفوبيا، تقدّم جان-لوك ميلانشون من امرأةٍ تبكي. تقدّم إليها بوقارٍ، ومدَّ يده بحنانٍ نادر أن تشاهده في مناظر السياسة. ثبّتت الدموع في ضلوع القلب، وفاض صوتها بعبارةٍ أحكمت في النفس:
«كلُّ المسلمين خائفون.»
لم تكن هذه الكلمات مجرد جملةٍ عابرة، بل صرخةٌ تكشف هواجسَ دفينة. فممّ يخاف هؤلاء؟ هل من احتقارٍ مخفيٍّ في تفاصيل الحياة اليومية؟ هل من إحساسٍ بأنّهم غير مرئيين رغم وجودهم؟ هل من عنفٍ يجوب الشوارع مثلما جلب رحيل عبوبكر، أو شبح حربٍ أهليةٍ تُقودها موجةُ التطرف المتنامية؟ والأشدُّ ألمًا: هل قد يُجبر هؤلاء، يومًا، على مغادرة فرنسا التي وُلدوا فيها إذا انكفأت الأبواب؟
في تلك اللحظة، استحضرت في ذهني فيلمًا وثائقياً كنت قد شاهدته — «الجزائر في ظل فيشي» لإخراج ستيفان بنحمّو وجاك أتالي. أعدت مشاهدته، فوجدت أنّ السؤال ذاته يتردد في صمتٍ متواصل:
هل ستخون فرنسا المسلمين كما خانت يهود الجزائر تحت سماء فيشي؟
1. تحت فيشي: كيف سُلبت جنسية يهود الجزائر
يعرض الفيلم الوثائقي خطوةً بخطوة مسارًا دامًا قوّض مكانة يهود الجزائر، بوصفهم مواطنين فرنسيين، إلى «أهالي المستعمرات» بلا حقوقٍ رسمية:
إلغاء مرسوم كريميو (أكتوبر 1940)
كان يهود الجزائر منذ 1870 يتمتعون بالجنسيّة الفرنسية. لكن في أكتوبر 1940، أصدر نظام فيشي قرارًا بإلغاء هذا المرسوم، فأصبح المئات من آلاف المواطنين بلا جنسيّةٍ فعلية، وقد صُنفوا كـ«أهالي مستعمرات».
يوضح المؤرخ بنجامين ستورا حجم الصدمة:
«كانت صدمةً هائلة لمن لم يشعروا يومًا أنّ شيئًا يفرّقهم عن الفرنسيين الآخرين. كانوا يعتقدون أنّهم جزء لا يتجزأ من الأمة الفرنسية.»
ثم يضيف:
«أشعروني أنّ اليهودي الجزائري لا يمكن أن يكون فرنسيًا ويهوديًا في آنٍ واحد؛ كان عليه أن يختار أحدهما.»
الإقصاء من الوظائف العامة (1941)
مُنع الأطباء والقضاة والمعلمون اليهود من مزاولة مهنهم. نفد رزق عائلات كثيرة، ولحقتهم معاناةٌ استمرت لأجيال.
مصادرة الممتلكات والشركات
صودرت منازلُ اليهود وشركاتهم بإرادة المحافظين المحليين. يقول ستورا:
«كان توقيع المحافظ كافيًا لسلب أسرةٍ كاملة كلَّ ما تملك.»
منع الأطفال من التعليم
حُرم آلاف الأطفال اليهود من دخول المدارس العمومية. يسلِّط جان لالوم الضوء على هذه الخطوة قائلاً:
«كسرُ مسار طفلٍ يهودي تعليميًا كان يقضي عليه بوضعية مواطن من الدرجة الثانية.»
الإذلال وترسيخ التراتبية العرقية
جرى إعداد إحصاءات خاصة باليهود، ووضعت على بيوتهم علاماتٌ مميزة، وفرضت حصصٌ رقميةٌ في العمل والتعليم. وكان الإعلام الاستعماري يصفهم كـ«أعداءٍ في الداخل».
حينها، لم يُهان المجتمع اليهودي فحسب، بل ضُرب مبدأُ المساواة في صميمه. يعقب جاك أتالي:
«كان ذلك خيانةً للمبادئ الجمهورية...»
ويقول فرحات عباس، رئيس الحكومة المؤقتة للحكومة الجزائرية:
«وعدتنا فرنسا بالمساواة، فوجدنا اللا مساواة. وعدتنا بالأخوّة، فأعطتنا الاحتقار.»
2. ظلال الحاضر: رهبة المسلمين في الجمهورية
لا يرمى هذا النصُّ إلى إجراء مقارنةٍ حرفيّة بين ما حدث في الأربعينيات وما يجري اليوم، بل يسعى إلى إطلاق إنذارٍ مبكر. فقد اتخذت تصريحاتٌ وسياساتٌ في السنوات الأخيرة مساراتٍ أثارت هواجسَ تتعلق بخطورة المسار الحقوقي:
«لا يُضطَدَع الناس باسم القانون، بل يُقَنَّن الاضطهاد.»
— ألبير كامو
الإطار القانوني الحالي
من حيث المبدأ، لا يمكن سحب الجنسية الفرنسية من مواطن وُلد في فرنسا إلا إن ثبت حمله جنسيةً أخرى، تفاديًا لوقوعه في وضعية انعدام الجنسية. ومنذ تعديلات 1998 و2015، صار سحب الجنسية مقصورًا على حالاتٍ استثنائية: الإرهاب أو التهديد للأمن القومي، وتُنفَّذ الإجراءات ببطءٍ شديدٍ وبضوابط قضائية مشددة.
مع ذلك، تتكوّن آليات جديدة للإقصاء:
حلّ الجمعيات الإسلامية
منذ 2017، أُغلقت أكثرُ من أربعين جمعية مرتبطة بالحركة الإسلامية أو بالمراكز الثقافية والدعوية. ووفق إحصاءات وزارة الداخلية، شهد عام 2023 حلّ 34 جمعية، أعاد بعضها مجلس الدولة بعضها بموجب قراراتٍ لاحقة. تثير معظمُ هذه القرارات تساؤلاتٍ حول الأدلة المستخدمة، إذ تُبنى غالبًا على تهمٍ بـ«التطرّف» غامضةٍ التحديد.
ارتفاع الإسلاموفوبيا
سجّلت “المرصد الأوروبي للإسلاموفوبيا” 1,037 واقعةً معاديةً للمسلمين في 2024، بزيادة 25% عن عام 2023. تراوحت الوقائع بين اعتداءات لفظية وأعمال عنف جسدي وتخريب مساجد ومدارس، ما يدل على تصاعد نبرة العداء الاجتماعي بحق المسلمين.
تمييز يومي ملموس
في ديسمبر 2024، أُخرجت طالبة محجبة من قاعة المحكمة أثناء زيارةٍ مدرسيّة بحجة «انتهاك الحجاب لروح العلمانية»، رغم عدم وجود نصٍّ قانونيٍ واضحٍ يدعم كان هذا الإجراء. وأظهرت دراسةٌ أكاديمية أنّ ارتداء الحجاب يقلّل بنسبة 80% من فرص الحصول على مقابلة تدريبٍ وظيفي في بعض الشركات الفرنسية.
مشروع قانون رقم 2494 (أبريل 2024)
يجيز هذا المشروع فصلَ التلاميذ «المشتبه في نشاطهم الإسلاموي»، بصياغةٍ غامضةٍ أثارت مخاوف واسعّة حول فرص استخدامه كأداةٍ للتمييز التعسفي ضدّ الشبان بلا أدلة ملموسة. وحذَّر بعض نواب المعارضة من أنّ هذا النصّ قد يصبح سيفًا مسلطًا على حرّية الطلاب في التعبير عن ذاتهم ومعتقداتهم.
اليوم، يُسأل المسلمون عن ولائهم بمجرد سماع أسماءهم. تُقصى الطالبات بسبب الحجاب. يُلاحَق بعضُهم قانونيًا واجتماعيًا لمجرّد تضامنهم مع قضايا خارجية مثل غزة. يبقى السؤال: كيف نمنع استخدام شبهة التطرّف ذريعةً لتقييد حقوقٍ أساسية وحرياتٍ ضروريّة؟
3. اليقظة والذاكرة: دروس لا تُمحى
يؤكّد المؤرخ بنجامين ستورا بحزنٍ:
«نسيان ما حدث يعني إعادة إنتاج الانقسام من جديد.»
إنّ استحضار الماضي ليس واجبًا أخلاقيًّا فحسب، بل ضرورةٌ وطنية. فالتاريخ لا يعيد نفسه بكلّ تفاصيله، لكنّه يقدّم لنا دروسًا قاسيةً لا يجوز تجاهلها. وقد أثبتت سنواتٌ مضت أنّ إهمال هذه الدروس يمهّد لعودة ممارسات تنطوي على تمييزٍ ممنهجٍ، وإن تغيّرت الأدوات والقوانين.
الخاتمة: إنذار قبل فوات الأوان
قد يرى بعضُ القرّاء في هذا الحديث طابعَ المبالغة، لكنّ الإشارات واضحةٌ في تصريحات المسؤولين والممارسات الميدانيّة على الأرض. إنها ليست نبؤةً بقدر ما هي إنذارٌ يلفظ أنفاسه الأخيرة قبل الانفجار.
«إذا حُرِم إنسانٌ من حقّه في أن يكون ما هو عليه، فإنه محكومٌ عليه بالتمرّد.»
— أمين معلوف
ما يُحرَم اليوم من المسلمين في فرنسا هو أبسطُ حقوق الإنسان: أن يكونوا أنفسهم، أن يكونوا مواطنين كاملين الحقوق، دون قيودٍ إضافية. ومع اقتراب انتخابات عام 2027، سيُطرح السؤال من جديد: هل سيصوّت مسلمو فرنسا لإعلان وجودهم، أم سيمتنعون احتجاجًا على التهميش؟
إنّ قرارهم لا يتجلّى في مجرد وسمٍ داخل ورقة اقتراع بقدر ما هو تجلٍّ لمدى شعورهم بالانتماءِ إلى هذا الصرح الوطني المشترك. فهل سنبادر إلى استنهاض ضميرنا قبل أن تنطوي فصول هذا الفصل الحاضر، ونصون قيم الجمهورية التي تفخرُ بأنها «أرضُ حقوق الإنسان»، قبل أن تتحوّل قوانينها إلى سيوفٍ تُراد بها صهرُ أبناءِ الوطن أنفسهم؟