يُروى بتواتر عن مفكّر الإسلام وفيلسوف الحضارة في القرن العشرين، مالك بن نبي، رحمه الله، قوله لزوجته في آخر حياته "سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس"، فقد عاش محاصرا في عصره، ومضايقا في أفكاره، غير أنه كان واثقا تماما أنها سَتُفَعَّلُ في يوم ما، وها قد صدقت نبوءة الرجل العملاق اليوم بعودة النخب الإسلامية في مختلف المستويات إلى مُدارسة رؤاه التي سبق بها زمانه قبل 75 عاما، وجعلت قيادات دول من قيمها الفلسفية والعملية مرتكزات لنهضتها الجديدة!
لقد كان بن نبي يؤمن أنّ "المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان، فالإنسان هو الهدف و نقطة البدء في التغيير والبناء "، لذلك كرس حياته للبحث في مشكلات الحضارة، وبذل جهدًا كبيرًا لفهم مقوماتها.
ودفعًا لاهتمام القرّاء بمطالعة الكتاب في ظل الحجر الصحّي هذه الأيام، وتعميما للفائدة المعرفية الراقية التي حملها فكره الإسلامي النيّر، فقد ارتأى "الحراك الإخباري"، أن يعود إلى بسط تصورات الرجل الأساسيّة، من خلال عرض لأبرز مؤلفاته العالميّة ، واليوم سيكون موعدنا مع كتاب " مشكلة الثقافة".
يتناول هذا الكتاب مشكلة الثقافة في العالم الإسلامي، وعلاقتها بمشكلة الأفكار. ويبدأ الكتاب بمعنى الثقافة ومتى استخدمت في اللغة الغربية، ثم يحلل معنى الثقافة في الإطار النفسي والاجتماعي. ويتناول فكرة الثقافة وعلاقتها باللغة، وجذورها في تراثنا وفي اللغات الأوروبية. ثم ينتقل إلى علاقة الثقافة بعلم الاجتماع، ثم معنى الثقافة في ظل الأفكار الجديدة لعلم الاجتماع وعلم النفس والأجناس، ثم المدارس التي تناولت تفسير الثقافة (المدرسة الغربية، والمدرسة الماركسية)، ثم يتعرض إلى موازنة آراء هذه المدارس، ثم يتعرض إلى تصور آخر لمشكلة الثقافة في الإطار العربي ويعطي تعريفاً آخر للثقافة.
بعد ذلك ينتقل من محاولة إبراز العوامل المختلفة التي لها دور في تحديد ثقافة معينة، إلى تركيب لعناصر الثقافة في الإطار النفسي. وتحدث عن الشرط الجوهري في تركيب العناصر الثقافية؛ وهو الصلة الضرورية بين الفرد وعالم الأفكار والأشياء، والأشخاص والعناصر والظواهر الطبيعية. ثم يتحدث عن توجيه الثقافة ويتناول مشكلة الثقافة من الوجهة التربوية ثم توجيه الأفكار. ثم ينتقل إلى الحرفيَّة في الثقافة، ويتحدث عن معنى الثقافة في التاريخ، ومعنى الثقافة في التربية، ثم يتناول الحديث عن التوجيه الأخلاقي من الناحية الاجتماعية، ثم التوجيه الجمالي وأثر الجمال في الروح الاجتماعية. ثم يتحدث عن المنطق العملي؛ أي كيفية ارتباط العمل بوسائله ومقاصده، ثم يتحدث عن التوجيه الفني أو الصناعة وما يتعلق بها من المهن والقدرات والقيمة الاجتماعية لها. ثم ينتقل إلى الأزمة الثقافية وكيف تنشأ هذه الأزمة في غياب الجو الثقافي وتعذر تركيب العناصر الثقافية، ثم يتحدث عن التعايش بين الثقافات، وكيف يتم في رقعة جغرافية معينة كمحور طنجة - جاكرتا، ثم الثقافة في اتجاه العالمية، وما هو ضد الثقافة، ثم خاتمة الكتاب.
وفي قراءة تحليلية لمضمون الكتاب، يقول عبد الصمد حضري، الباحث في فكر بن نبي،
لا شك أن تعريف مفردة “الثقافة” هو ما سينطلق منه أي كاتب يروم الخوض في ثنايا هذا المفهوم العميق والمعقد. و كذلك كان الشأن بالنسبة لمالك الذي انطلق في كتابه هذا من التأكيد على أن المفاهيم والأشياء على حد سواء تظل، مع كونها حاضرة في حياة الناس، قابعةً في مستوى اللاشعور إلى أن يتنبه لها الإنسان و يصبح قادرا على تحديد معالمها إذاك يطلق عليها اسما تصديقا على وجودها الذي اكتشفه. ثم بعد ذلك ينطلق الإنسان إلى مستوى أعلى في سلم التعرف على المفهوم أو الشيء، وهو عندما يخضعه لأدوات العلم قصد ضبطه وتنظيمه وتشريح مضامينه.
والثقافة كما تعني اليوم مفهومٌ كان حاضرا منذ نشأة أولى الحضارات على الأرض ولكنه لم يحدد كمفهوم معروف إلا حديثا بفضل النهضة الأوربية التي عرّفت الثقافة على أنها الإنسانيات اللاتينية الإغريقية أي ما أنتجته قرائح الفكر الكلاسيكي الأوروبي. وبعد اكتشاف العالم الشرقي وحضارته (الهندية والصينية) صار للثقافة مفهوم أرحب كونُها تضم واقعا اجتماعيا يتجاوز حدود أوربا.
اجتهد العالم المتحضر بشقيه الغربي و الماركسي في إيجاد تعاريف للثقافة، لكن هذه الأخيرة، يؤكد الكاتب، مع أنها سليمة في ذاتها غير أن تنزيلها في واقعنا (العربي الإسلامي) يثبت عدم صلاحيته كونها تفتقد عنصرا مكملا ضمنيا كامنا في نفوس صائغيها لا يمكن أن نستشفه من ظاهر التعريف لأنه منطلق أساسا من واقعهم الذي يعيشون فيه.
الثقافة هي بالأساس صورة لواقع اجتماعي معين. و طبيعة “الأشياء” و “الأفكار” في مجتمع ما لا يمكن أن تعطينا فكرة عن ثقافته ولكن ما يخول ذلك هو بالأساس هي طبيعة علاقة هذا المجتمع و صلته بهذه الأفكار والأشياء. ففاعلية الأفكار تبقى مرتبطة دوما بشروط نفسية واجتماعية تتنوع بتنوع الزمان والمكان. فقد أوحت تفاحة (شيء) لنيوتن ب(فكرة) عظيمة (الجاذبية) ولو سقطت نفس التفاحة على جد نيوتن أو على فرد يعيش في جو ثقافي مختلف لأكلها ولما أوحت له بشيء. كذلك الشأن بالنسبة لأفكار ابن خلدون العظيمة التي لم يكن لها صدى في واقع زمانه لأن المتلقي أنداك يفتقد لذلك الاستعداد للتماهي مع الفكرة وتبنّيها. فالصلة الثقافية هي التي تمنح الأشياء والأفكار قيمتها الذاتية والموضوعية في إطار معين.
الثقافة في مجتمع معين توحد بين الراعي والطبيب فيه بينما تفرق بين ذلك الطبيب وطبيب قادم من ثقافة أخرى. إنها ثقافة عمر بن الخطاب التي طلبت التقويم من “الشعب” في حال الحياد عن الحق فلم يندهش الشعب من هذا الطلب بل أجاب ب “لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا”. فالثقافة أسلوب حياة مشترك لمجتمع ما ينضوي تحته علماؤه وفلاحوه على حد سواء.
الثقافة هي أعم من المعرفة وأوثق صلة بالشخصية من جمع المعلومات، فهي تمثل مجموعة الصفات الخلقية والاجتماعية التي تؤثر في الفرد منذ ولادته وتصبح لاشعوريا العلاقةَ التي تربط سلوكه بأسلوب الحياة في الوسط الذي ولد فيه. هي إذاً ذلك الجو الذي يمتص الفردُ عناصرَه تلقائيا لا بوصفها معاني يكتسبها عن طريق الوعي ولكن بوصفها صورا استأنس بها مند مهده ثم تذوب هذه العناصر لتطبع سلوكه.
على مستوى العالم المتخلف لا يمكننا أن نتحدث عن ثقافة إذ لا وجود لحضارة في ذلك العالم، فالثقافة للحضارة كالدماء للجسد تغذيه وتصنع مناعته. كما أننا في هذا العالم لا يمكننا أن نعتبر أن الفولكلور هو الثقافة لأنه في أحسن الأحوال جزء منها لا غير. في هذا العالم المتخلف، من الأجدر أن نتحدث عن اللاثقافة، أي ذلك المستوى الاجتماعي المعيش الذي لابد أن ننطلق منه لنبني ثقافة تتمتع بالأصالة والعالمية معا. ثقافةً تدلل على ارتفاع المستوى الاجتماعي لأفرادها محليا و تبذل الحلول الجديدة و المبتكرة لمشاكل العالم.
ونشير في الختام أن هذا الكتاب صدرت طبعته الجديدة الفاخرة عن دار الفكر بدمشق، وهو متوفر حصريّا بالجزائر لدى "دار الوعي"، مثلما لديها "المجموعة الكاملة لأعمال مالك بن نبي" لكل من يرغب في الاستفادة منها، حيث يمكنه التواصل معها عبر حسابها الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي.