الحراك الإخباري - كتاب "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" لمالك بن نبي
إعلان
إعلان

كتاب "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" لمالك بن نبي

منذ 4 سنوات|قراءة في كتاب


يُروى بتواتر عن مفكّر الإسلام وفيلسوف الحضارة في القرن العشرين، مالك بن نبي، رحمه الله، قوله لزوجته في آخر حياته "سأعود بعد ثلاثين سنة وسيفهمني الناس"، فقد عاش محاصرا في عصره، ومضايقا في أفكاره، غير أنه كان واثقا تماما أنها سَتُفَعَّلُ في يوم ما، وها قد صدقت نبوءة الرجل العملاق اليوم بعودة النخب الإسلامية في مختلف المستويات إلى مُدارسة رؤاه التي سبق بها زمانه قبل 75 عاما، وجعلت قيادات دول من قيمها الفلسفية والعملية مرتكزات لنهضتها الجديدة!

لقد كان بن نبي يؤمن أنّ "المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان، فالإنسان هو الهدف و نقطة البدء في التغيير والبناء "، لذلك كرس حياته للبحث في مشكلات الحضارة، وبذل جهدًا كبيرًا لفهم مقوماتها.

ودفعًا لاهتمام القرّاء بمطالعة الكتاب في ظل الحجر الصحّي هذه الأيام، وتعميما للفائدة المعرفية الراقية التي حملها فكره الإسلامي النيّر، فقد ارتأى "الحراك الإخباري"، أن يعود إلى بسط تصورات الرجل الأساسيّة، من خلال عرض لأبرز مؤلفاته العالميّة ، واليوم سيكون موعدنا مع كتاب " الصراع الفكري في البلاد المستعمرة".

يتحدث الكتاب عن الاستعمار وسيطرته من الناحية الفكرية على الشعب المستعمَر، وكيف أنه يسعى لخنق أي فكرة وإحباط أي شخص يحاول أن يوقظ الناس من سباتهم العميق، حيث يعمل على تشويه الأفكار وتحطيمها واستبدال فكرة مكان فكرة واستبدال فكرة جوهرية بأخرى جزئية وشحنها وشحن العواطف حولها، حتى تغدو وكأنها هي الفكرة الجوهرية.

ويوضح مالك بن نبي أن الاستعمار يعمل في منطقة الفكر والأفكار للشعب المستعمَر، فهو يدرك أنه لا يمكنه الوصول لأهدافه وتحقيق كل مصالحه وبسط سيطرته إلا بامتلاك عالم الأفكار لهذا الشعب.

ربما الحديث في الكتاب عن الاستعمار يوحي لنا أنه يتحدث عن فترة ماضية، حيث كانت معظم الدول العربية ترزح تحت الاستعمار، وأننا الآن لم يعد يعنينا هذا الكلام، باعتبار أننا تخلصنا من الاستعمار وبدأنا منذ زمن نحتفل بذكرى الاستقلال، لكن الحقيقة أننا إلى الآن مستعمَرين ولكن بطريقة جديدة، لا وجود للاستعمار على أراضينا كوجود مادي ولكنه موجود ومتربع في عالم أفكارنا ومعتقداتنا يرسم ويخطط ويغير قواعد اللعبة كيفما يشاء، ونحن ننفذ سواء كنا ندري أو لا ندري، وما مظاهر الغزو الثقافي والحياة المستوردة التي نعيشها الآن إلا دليل على امتداد أرجل الأخطبوط في حياتنا وأفكارنا ومعتقداتنا وتشبيه (الأخطبوط) هو لمالك بن نبي في كتابه (تأملات)، حيث تحدث عن قوى الاستعمار الفكري والثقافي وشبهها برأس الأخطبوط المدبر وله أرجل ممتدة في بلادنا، متمثلة بأولئك الذين يخدمون مصالح الاستعمار ومخططاته، سواء كانوا من المستشرقين أو من بعض مثقفي البلد ذاته.

لدينا ثغرة كبيرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وهي أننا لا ننظر لعالم الأفكار على أنه أسمى العوالم والمقومات الاجتماعية وأن الجانب الفكري هو قوة أساسية تنظم وتوجه قوى التاريخ كلها وتعصمها بذلك من محاولات الإحباط مهما كان نوعها.

هذا الكتاب يجعل منه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي خشبة المسرح التي تدور عليها مجريات فصول" الصراع الفكري " في البلاد المستعمرة دون غيرها !

في الفصل الأول "عموميات عن الصراع الفكري " تدور الأحداث حول محاولة الاستعمار دائما تحويل الفكرة المجردة إلى فكرة متجسدة، حيث من السهل أن خداع الفرد ولكن من العسير أن تخدع فكرة، و تعد هذه من وسائل المقاومة لأي محاولة تظهر في البلاد المستعمرة لتصحيح النظام السياسي، إذ يستغل جهل هذه الدول بقيمة الفكرة في توجيه مصير المجتمعات.

وفي الفصلين الفصل الثاني "في حلبة الصراع" و الثالث " تركيب آخر لمرآة الكف"، يقول مالك بن نبي "إن الأشياء تمر علينا دون أن تصل لشعورنا، لأننا نمر على سطح الأشياء دون الوصول إلى مكنونها".

وشرح المؤلف ثنائية الغموض و الفعالية، حيث أن الغموض هو بأن يعمل الاستعمار في الخفاء و دون أن يظهر، أما عن الفعالية فهو أن يتعلق بأفكار معيـّنة يريد تحطيمها حتى لا تؤدي دورها في توجيه الطاقات الاجتماعية في البلاد المستعمرة .

و يكون الهدف في هذه المرحلة تشتيت القوى الموجودة في المعركة ؛معركة الأفكار ، حتى يقضي على" الوحدة المقدسة" التي تهب الكفاح قيمة خلقية عليا.

ونرى أيضا، حسب بن نبي، كيف يحاول أن يحوّل المعركة بينه وبين القوى التحررية إلى معركة بين القوى وفي داخلها نفسها، و كيف يستخدم المال و سياسته الاقتصادية حتى يسيـّر خططه التي من أهمها عزل الفدائي و إحاطته بصمت عميق؛ حيث يحاول إيصال صوته لكن دون صدى، فيشعر وكأنه ألقى بنفسه في التهلكة دون جدوى .

ينتقل بنا الفيلسوف لزيارة إحدى المتاحف و يطلب منا الانتباه إلى "الضوء و الانعكاسات "، وهذا ما نلاحظه تماما هناك كيف أن الجماليات في المكان يكون استخدام الضوء فيها حيثيـّة لها أهميتها، و يذكر لنا تجربته في حين صدور ترجمة كتاب" شروط النهضة ومشكلات الحضارة " و يحاول أن يعكس الفكرة في مرآتنا الذهنيـّة و يرفق نموذج يسميه "مرآة الكف "وهي مرآة ذهنية تعكس نفور إزاء موضوع الانعكاس و هو" الفكرة المتجسدة".

ولنعود إلى المسرح حتى نشاهد " لعبة الظل و الأخيلة " حيث المعارك الوهميـّة بين المفكرين وبين الدول فيقوم بتوجيه الطاقات بغاية تبديدها وكثيرا ما واجهنا ذلك لردّ هجمات الاستشراق عندما تصرف الأموال والأقلام والأفكار عن الأشياء الجديـّة، و يريد من الجميع أن يقرأ و يحلل خططه دون الخروج عن النص؛ أي لو فكرنا بأن الدين سماوي و في جوهره القوة التي تمنحنا الرد والدفاع به لا عنه، يدخل الاستعمار في حالة من القلق !

وهذا القلق جعلهم يبحثون عن مخرج من هذا المأزق حيث الوسائل الأكثر مناعة فقاموا بالتطوير على المرآة بأنهم زودوها بخاصية الإيحاء ، في دائرة الأفكار ، ودائرة العلاقات الاجتماعية، والدائرة الشخصية ، و لدائرة الأفكار إشعاع على الدائرة الشخصية، التي تعكس بعضها على الدائرة الاجتماعية ، وحتما هناك تداخل في الإيحاءات التي ترد إلى دائرة الأفكار لكنها لديها القدرة على التمييز بين هذه الإيحاءات بين الخير و الشر .

و هذا ما حدث أيضا في التاريخ الإسلامي حينما حاول المنافقون التشكيك بالوحي لكن تماسك الأفكار القرآنية صدّهم ومنعهم.

ونجد أنفسنا أمام نموذجين، إما أن نوجه الإشعاع لدائرة الأفكار من الخارج أو من الداخل .

وفي الفصل الرابع "مظاهر أخرى للصراع الفكري " يشرح بن نبي "كيف يخلق الاستعمار الأفكار المناسبة لمصالحه و يغذّيها في وعي الجماهير ؟ "

يذكر في هذا الفصل تأسيس دولة باكستان كمثال ؛ لأن خلق فكرة باكستان هي من أهم الحوادث السياسية التي تتجلّى فيها جوانب الضعف المتمثل بـ "القابليـّة للاستعمار " و فنيـّة الاستعمار في خلق الأسطورة .

فكما أن استقلال الهند كان في الواقع سداً في وجه الشيوعيـة ليحد من انتشارها ، فكذلك كان تأسيس دولة الباكستان سداً وُضع ليحد من انتشار الإسلام في الهند حتى لا تنشأ "قوّة إسلاميـّة" نظرا لأن كل ما يضعف مركز الإسلام في الهند يضعف إشعاعه في آسيا و بالتالي في العالم ، فعلى اعتبار أن فكرة باكستان كانت في عقولنا دواء لحالة مسلمي الهند فيجب أن نعترف أن الدواء كان شرا من الداء.

وفي الفصلين الخامس "على هامش الكتاب " و السادس "حياة الأفكار وقيمتها الرياضية"، يؤكد بن نبي أنه للتشكيك في فكرة يكفي أن يشوّه الاستعمار منطوقها اللغوي ؛ أي الكلمة التي تتضمن معناها الحرفي أو الشعار الذي يؤدي معناها الرمزي .

لو قدرنا أن فكرة ما تبلورت في شعار معين ذي تركيب ثنائي يشير إلى عنصريه بحرفي( أ ) و (ب)، فإنه يمكننا أن نضع له معادلة تعبر عن وحدته وعن ذاتيته ، الفكرة =أ+ب

ولنفترض الآن أننا أخذنا العنصر (أ) و أدخلناه في تركيب جديد حيث يكون بجانب عنصر جديد (ت)

ونستطيع أن نرمز إلى هذه العلاقة بالمعادلة الآتية :تركيب جديد =أ+ت

وحيث أن هذا التركيب يتضمن خصائص العنصرين اللذين يكونانه، فإنه ينطوي ضرورة على كل الآثار النفسية التي يحملها العضو المشبوه فيه (ت) ويعكسها على كل أجزائه أي على (أ) بالذات، وهكذا يصبح هذا العنصر مشتبها به بحكم علاقته الجديدة، فيحيل نوعا من العدوى النفسية إلى التركيب الأول (أ+ب) وهكذا يصل الاستعمار بعد سلسلة معينة من الانعكاسات المشروطة إلى الفكرة التي يريد إصابتها حتى يصلها الإشعاع النفسي المقصود عن طريق شعارها ومنطوقها.

وهذه الكيمياء الخاصة ليست جديدة إلاّ من الناحية النظرية ؛لأن علم النفس، وعلم النفس التجريبي منذ بافلوف، بوجه خاص هو الذي حدد قواعدها، و أما من الناحية العلمية فهي قديمة، نجد أثرها في وقائع كثيرة من التاريخ الإسلامي، فمنذ المراحل الأولى من هذا التاريخ نجد أحداثا سياسية هامة تفسر على ضوء هذه الكيمياء .

و في هذه الأثناء و الستار يسدل على مسرحية "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة " نجد أنّ "الاستعمار يظهر كـمخرج مسرحي من طراز رفيع ، فنجد أنّ وسائله تتنوع حسب الظروف و طبقاً للمناسبات فهو لا يحافظ إلاّ على الخطوط العريضة في سيناريوهات الصراع الفكري ".

ونشير في الختام أن هذا الكتاب الذي هو مؤلفات بن نبي بالعربية، قد نشرته دار الفكر بدمشق في طبعة أنيقة، وهو متوفر حصريّا بالجزائر لدى "دار الوعي"، مثلما لديها "المجموعة الكاملة لأعمال مالك بن نبي" لكل من يرغب في الاستفادة منها، حيث يمكنه التواصل معها عبر حسابها الرسمي على مواقع التواصل الاجتماعي.

تاريخ Apr 23, 2020