الحراك الإخباري - محمد العربي التبّاني...شمعة جزائرية أنارت البقاع المقدسة
إعلان
إعلان

محمد العربي التبّاني...شمعة جزائرية أنارت البقاع المقدسة

منذ 3 سنوات|دين

في رحلتنا التاريخية الشيقة بين أقطاب التصوف والمعرفة من أعلام الجزائر، تستوقفنا اليوم شخصية أخرى أشرقت أنوارها في البقاع المقدسة، إنه العلامة محمد العربي بن التباني بن الحسين بن عبد الرحمن بن يحيى السطايفي الجزائري المكي، المدرس بالحرم الشريف.

ولد الشيخ العربي التباني بقرية رأس الواد بسطيف سنة 1315هـ (حوالي 1897-1898 م)، وهي القرية التي ولد بها الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله. وبالنظر إلى تاريخ ميلاد الشيخ التباني نجده أصغر من الشيخ البشير بسنوات قليلة، فلا شك أن الشيخ يعرفه ولعله كانت بين الشيخين مراسلات واتصالات .

وتلقى تعليمه الأوّلي في قريته، حيث حفظ القرآن الكريم وعمره اثنا عشر عاماً، وحفظ معه بعض المتون الصغار مثل الأجرومية والعشماوية والجزرية وقد تلقى هذه العلوم وهو في كفالة والده.

ثم شرع في التوسع وبدأ في تلقي بعض المبادئ في العقائد والنحو والفقه على يد عدة مشايخ وعلماء أفاضل من أجلهم الشيخ عبد الله بن القاضي اليعلاوي رحمه الله تعالى.

رحلة طويلة في طل بالعلم

وبعد ذلك رحل إلى تونس ومكث بها أشهراً درس أثناءها على أيدي بعض مشايخ جامع الزيتونة المشهورين في الفقه والنحو والصرف والتجويد أداء وقراءة مع حفظ بعض المتون الأخرى التي لم يحفظها.

وبعد هذه الرحلة أكرمه الله تعالى برحلة أخرى إلى المدينة المنورة، حيث لازم فيها كبار العلماء خاصة المالكية، ومنهم العلامة أحمد بن محمد خيرات الشنقيطي التندغي، وقرأ على يديه الدردير على مختصر خليل، وأيضاً الرسالة البيانية وسيرة ابن هشام والمعلقات السبع وديوان النابغة وسنن أبي داود.

ولازم أيضاً بالمدينة المنورة العالم المشهور العلامة حمدان بن أحمد الونيسي المتوفى عام 1338هـ، وهو شيخ العلامة عبد الحميد بن باديس في قسنطينة، وقد التقى به الشيخ عبد الحميد عند ذهابه إلى الحج، فقرأ على الشيخ حمدان تفسير الجلالين وألفية ابن مالك بشرح ابن عقيل.

ومن مشايخه أيضاً ببلد المصطفى عليه الصلاة والسلام الشيخ عبد العزيز التونسي المتوفى عام 1336هـ، حيث قرأ عليه كماً كبيراً من موطأ مالك مع الشرح للزرقاني وقطعة من مختصر خليل.

وممن لازمه الشيخ العربي التباني اللغوي الشهير محمد محمود الشنقيطي.

ثم بعد ذلك رحل إلى دمشق الشام حيث مكث فيها شهوراً وكان يزور مكتبة الملك الظاهر المعروفة بالظاهرية وأحياناً كان يتردد على دار الحديث الأشرفية، ثم خرج من دمشق وقصد أم القرى مكة المكرمة بعد أن تكبد مخاطر الطريق ومشاق السفر حيث وصل مكة المكرمة في شهر رجب عام 1336هـ.

وبدأ بالدراسة والحضور في حلقات العلم بالمسجد الحرام، حيث أخذ عن الشيخ عبد الرحمن الدهام المتوفى عام 1337هـ دروساً في فنون شتى فقرأ عليه شرح زكريا الأنصاري وأخذ عن الشيخ مشتاق أحمد الهندي.

ولبراعته وحذاقته في الفهم ختم مع القراءة والمطالعة كثيراً من الكتب الكبيرة والصغيرة والرسائل وجميعها في الطبقات والتراجم والسير والتاريخ.

 التحوّل إلى التدريس والنبوغ العلمي

وفي عام 1338هـ عين مدرساً بمدرسة الفلاح بمكة المكرمة. ونظراً لتفوقه ونبوغه فاشتغل بالتدريس تحت أروقة الحرم المكي الشريف بباب الزيادة ثم بحصوة باب العمرة “بين بابي الباسطية والزيادة”، بين المغرب والعشاء. فقام بتدريس الحديث والتفسير والأصول والبلاغة والتاريخ الإسلامي.

وختم الطلاب عنده كثيراً من الكتب منها الصحيحان وموطأ مالك والجامع الصغير للسيوطي وتفسير البيضاوي والنسفي وابن كثير وجمع الجوامع وسيرة ابن هشام وعقود الجمان والإتقان في علوم القرآن وتخرج من تحت يديه تلاميذ كثيرون أصبحوا بعده قناديل تضيء ساحات الحرم ومنهم العلامة علوي بن عباس المالكي والعلامة الفاضل الشيخ محمد نور سيف بن هلال والعالم الصالح محمد أمين كتبي. ومن تلاميذه أيضاً الدكتور محمد علوي مالكي.

ولقد كان من عادة الشيخ العربي التباني أن يدرس في الحرم خمس ليال في الأسبوع إلى جانب الدروس التي كان يلقيها بمدرسة الفلاح وبعد ذلك اختصر دروسه على ليلتي الجمعة والسبت في الحرم المكي حيث كان يدرس الجامع الصغير للحافظ السيوطي والسيرة مع الاستمرار في التدريس في منزله لكبار الطلبة يومياً من الضحى إلى الظهر ثم في المساء يدرس في شتى الفنون.

ولقد كان رحمه الله صاحب فهم تام وذكاء مفرط، وكان متواضعاً معروفاً بين كل من يعرفه بالخلق الطيب الحسن.

ولقد كانت تربطه محبة ومودة مع تلاميذه الذين تلقوا العلم على يديه ومن الذين تأثروا به تلميذه الشيخ حسن مشاط فقد تأثر به تأثراً كبيراً حتى في معاملته.

وكثير ممن تلقوا العلم على يدي شيخنا أصبحوا فيما بعد علماء يلقون الدروس في الحرم الشريف وازدهرت بهم جنبات الحرم وأصبحت حلقاته العلمية نورا يضيء أروقة الحرم.

وكان رحمه الله يشفق كثيراً على الفقراء وصاحب هيبة ووقار وحسن التقرير في درسه مع التوسع في الشرع والبيان، عامر الوقت بالذكر والمذاكرة ويدعو إلى الله بحاله وماله.

أعمال وتصنيفات ومخطوطات الشيخ التباني

وللشيخ العربي التباني رأي في التأليف حيث جاء في حاشية كتابه (محادثة أهل الأدب بأخبار وأنساب جاهلية العربي) قال: لا أميل إلى التأليف عملا بنظرية القائل ما ترك الأول للآخر شيئا.

ثم قال: أستغفر الله من أن أقول هذا هضماً لحقوق العلماء الشارحين فإنهم عندي بالمكان الأعلى من التوقير والاحترام وما من شرح وحاشية إلا وفيه فوائد، ولكن أقول هذه الكثرة لم تنتج شيئاً يقارب علم الأقدمين فضلاً عن مساواته.

ويقول الشيخ العربي التباني لقد سمعت من شيخي الشيخ حمدان الونيسي رحمه الله تعالى يقول: (التأليف في هذا الزمان ليس بمفخرة). فالشيخ صاحب رأي قوي مع الأدب الجم الكبير للعلماء الأجلاء فهو لا يغلق الباب ولكنه ينزل أعمال المتأخرين منزلتها مقارنة بأعمال المتقدمين.

وللشيخ مصنفات كثيرة نافعة ومفيدة رغم رأيه المذكور في التصنيف حيث كتب غالبا من أجل تصحيح بعض الأخطاء والرد على المخالفين، نذكر منها:

1- إتحاف ذوي النجابة بما في القرآن الكريم والسنة النبوية من فضائل الصحابة.

2- تحذير العبقري من محاضرات الخضري.

3- اعتقاد أهل الإيمان بنزول المسيح بن مريم عليه وعلى نبينا السلام آخر الزمان.

4- خلاصة الكلام فيما هو المراد بالمسجد الحرام.

5- إسعاف المسلمين والمسلمات بجواز القراءة ووصول ثوابها إلى الأموات.

6-تنبيه الباحث السري إلى ما في رسائل وتعاليق الكوثري.

وللشيخ العربي التباني كتب كثيرة لم تطبع مثل:

– حلبة الميدان ونزهة الفتيان في تراجم الفتاك والجشعان

– وبراءة الأبرار ونصيحة الأخبار من خطل الأغمار

– ومختصر تاريخ دولة بني عثمان

– إدراك الغاية من تعقب ابن كثير في البداية.

 وفاة الشيخ التباني بمكة المكرمة

وبعد حياة حافلة بالخير ومسيرة إسلامية طيبة درس خلالها تحت أروقة الحرم المكي تشع أنواره في أرجاء الحرم معلما لمبادئ الدين الإسلامي توفي الشيخ محمد العربي التباني في شهر صفر عام 1390هـ (أبريل 1970 م) بمكة المكرمة، وصلي عليه بالمسجد الحرام ودفن بمقابر المعلاة، واشترك في تشيعه عدد كبير من العلماء وأهل العلم ومحبيه وتلاميذه وعارفي فضله.

وهكذا ودع أهل مكة عالما من علمائها الأجلاء الأفاضل الأفذاذ وصالحاً من الصالحين وفقدت مكة بوفاته رجلاً من الأعيان والأعلام مثلما فقدت مكة قبله وبعده مثله رحمه الله من أهل القلم وأقطاب المعرفة، ولفراقه عم حزن كبير أرجاء مكة المكرمة، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه الله عن العلم والعلماء خير الجزاء نظير ما قدم من علم وعمل وجعل الجنة مثواه.

بتصرف عن ترجمة عبد الرحمن المغربي

تاريخ Jan 30, 2021